«الوجود» ومحمول جميع مسائلها أيضاً هو «موجود»، حيث نقول: اللّهموجود، الجوهر موجود، العرض موجود، وهكذا، ولا ريب في أنّ الوجودجامع هذه المحمولات.
قلت: كون الوجود موضوعاً للفلسفة وإن كان ملائماً للقول بأصالةالوجود، لكنّه لا يناسب القول بأصالة الماهيّة، لأنّ الوجود على هذا القول أمراعتباري، فالقول بكونه موضوعاً للفلسفة يستلزم أن يكون البحث عندالقائلين بأصالة الماهيّة في جميع الأبواب بحثاً عن أمر اعتباري، وحيث إنّه ليمكن الالتزام بهذا اللازم في الفلسفة التي يبحث فيها عن حقائق الأشياء،فلابدّ من حلّ الإشكال بأحد وجهين:
فبالنتيجة موضوع الفلسفة هو الجامع بين موضوعات مسائلها لا الجامعبين محمولاتها.
بأصالة الماهيّة، لكنّ الواقعيّة تنحصر في الوجود عند القائلين بأصالته، وفيالماهيّة عند القائلين بأصالتها.
وعلى هذا فموضوعات مسائل الفلسفة مصاديق هذه الواقعيّة، فالجوهر(1)أحد مصاديقها، والجسم مصداق آخر، والعرض مصداق ثالث، وهكذا.
والحاصل: أنّ موضوع الفلسفة هو الجامع بين موضوعات مسائلها، ويعبّرعنه بالواقعيّة.
هذه هي الإشكالات الواردة على ما ذكره من المقدّمات، وهنا إشكالانآخران ينهدم بهما أساس ما ذكره رحمهالله .
4ـ لا ريب في أنّ الغرض من البحث حول ملاك تمايز العلوم إنّما هوتشخيص المسائل المشكوكة.
توضيح ذلك: أنّا إذا شككنا في أنّ الاستصحاب مثلاً هل هو مسألةاُصوليّة أو فقهيّة، فلابدّ لنا من ملاحظة ضابطة التمايز، لنعلم بها كونه منالاُصول أو الفقه، كي ندرجه في محلّه ونبحث عنه في العلم المربوط به.
وربما يترتّب عليه ثمرة عمليّة أيضاً، كما لو قال شخص بجواز التقليد فيالفقه وحرمته في اُصوله، فإن اقتضت مسألة التمايز كون الاستصحاب من الفقهجاز التقليد فيه، وإن اقتضت كونه من الاُصول فلا.
وبالجملة: البحث عن ملاك تمايز العلوم ليس بحثاً علميّاً صرفاً، بل الغرضمنه رفع الشكّ عن المسائل المشكوكة وإدراجها في العلم المربوط بها.
إذا عرفت هذا، فلو قلنا بمقالة آية اللّه البروجردي رحمهالله من أنّ التمايز بتمايزجامع المحمولات فلا يترتّب عليه الغرض المذكور.
- (1) وجود الجوهر أو ماهيّته على الاختلاف في مسألة أصالة الوجود والماهيّة. م ح ـ ى.
(صفحه62)
توضيح ذلك: أنّ الجامع لابدّ من أن ينتزع عن محمولات جميع مسائلالعلم، وإلاّ فلم يتحقّق به التمايز بين العلوم.
فحينما نشكّ في أنّ الاستصحاب مثلاً هل هو من المسائل الاُصوليّة أم لا؟فالضابط في تشخيصه هل هو الجامع بين محمولات المسائل سوىالاستصحاب أو معه؟
لا يمكن الذهاب إلى الأوّل، لأنّه يستلزم الشكّ في كون هذا الجامع المنتزعجامعاً لمحمولات جميع المسائل، لاحتمال كون الاستصحاب منها.
ولا إلى الثاني، لأنّه يستلزم احتمال أن يكون هذا الجامع منتزعاً عنمحمولات مسائل الاُصول وشيء أجنبي عنها، للشك في دخول الاستصحابفيها فرضاً.
وبعبارة اُخرى: كلامه رحمهالله يستلزم نحواً من الدور، لأنّ العلم بكونالاستصحاب داخلاً في الاُصول أو خارجاً عنه يتوقّف على العلم بالجامع بينمحمولات جميع المسائل، لكونه ملاك التمايز، والعلم بالجامع لمحمولات جميعالمسائل يتوقّف على العلم بدخول الاستصحاب فيها أو خروجه عنها، كما هوواضح.
هذا أهمّ إشكال ينهدم به أساس ماذهب إليه آية اللّه البروجردي رحمهالله .
ولا يخفى عليك أنّه وارد على كلام المشهور أيضاً، لأنّهم ذهبوا إلى أنّ تمايزالعلوم بتمايز الموضوعات(1) أوّلاً، وإلى أنّ موضوع كلّ علم هو الجامع بينموضوعات مسائله(2) ثانياً، فتمايز العلوم عندهم بتمايز الجامع بين موضوعات
- (1) وأرادوا بها موضوعات العلوم لا موضوعات المسائل كما تقدّم. منه مدّ ظلّه.
- (2) وبعبارة اُخرى: نسبة موضوع العلم إلى موضوعات مسائله عند المشهور هي نسبة الكلّي إلى مصاديقهوالطبيعي إلى أفراده، كما عبّر به المحقّق الخراساني رحمهالله . م ح ـ ى.
ج1
مسائلها.
فلابدّ من أن يكون هذا الجامع الذي سمّى عندهم موضوع العلم منتزععن موضوعات جميع المسائل.
فلو شككنا في أنّ الاستصحاب مثلاً هل هو من المسائل الاُصوليّة أم لا؟فالعلم بدخوله فيها أو خروجه عنها متوقّف على العلم بالجامع بينموضوعات جميع المسائل، لكونه ملاك التمايز، والعلم بالجامع لموضوعاتجميع المسائل متوقّف على العلم بدخول الاستصحاب فيها أو خروجه عنها،وهذا دور.
وبالجملة: يرد على المشهور أيضاً ما أوردناه على آية اللّه البروجردي رحمهالله طابق النعل بالنعل.
لكنّه لا يرد على من قال بكون الأغراض ملاكاً لتمايز العلوم كالمحقّقالخراساني رحمهالله ، إذ العلم بالغرض لا يتوقّف على العلم بجميع المسائل، فيمكن أننعلم بأنّ فائدة علم الاُصول هي القدرة على الاستنباط، ومع ذلك نشكّ في أنّالاستصحاب هل هو من مسائله أم لا؟ فنعرضه على الغرض لكي يرفعالشكّ ونعلم بدخوله في المسائل الاُصوليّة أو خروجه عنها.
5ـ ويرد على آية اللّه البروجردي والمشهور إشكال آخر أيضاً، وهو أنّالجامع بين المحمولات أو الموضوعات الذي هو ملاك تمايز العلوم عندهم، هلهو جامع صنفي أو نوعي أو جنسي(1)؟
- (1) الجامع الصنفي يعمّ جمعاً من أفراد النوع يشترك في صفة، كالإنسان الأبيض، فإنّه يشمل لجميع الأفرادالبيض من الإنسان، والنوعي أعمّ من الصنفي، لشموله له ولسائر الأصناف، كالإنسان، والجنسي أعمّ منالنوعي، لشموله له ولسائر الأنواع، كالحيوان، فلكلّ واحد من أفراد الصنف جوامع ثلاثة: الصنفيوالنوعي والجنسي. منه مدّ ظلّه.
(صفحه64)
هنا قرائن على أنّ مرادهم الجامع النوعي:
منها: أنّ المشهور قالوا: إنّ نسبة موضوع العلم إلى موضوعات مسائله هينسبة الكلّي إلى المصاديق والطبيعي إلى الأفراد، فيعلم أنّهم فرضوا هذا الجامعنوعيّاً، وفرضوا موضوعات المسائل مصاديقه وأفراده، إذ لو كان مرادهمالجامع الجنسي لما عبّروا عن موضوعات المسائل بأفراده، بل بأنواعه، وأيضلو كان مرادهم الجامع الصنفي لما عبّروا عن موضوع العلم الذي هو عبارةاُخرى عن هذا الجامع بالطبيعي، لأنّ التعبير به إنّما يصحّ في النوع لا فيالصنف.
ومنها: أنّ إرادة الجامع الصنفي أو الجنسي تشكل الأمر في بعض العلوممثل علمي النحو والصرف، ضرورة أنّ إرادة الجامع الصنفي تستلزم أن يكونكلّ واحد من المعرب والمبني مثلاً علماً على حدة، لكونهما صنفين من النحو،وإرادة الجامع الجنسي تستلزم أن يكون موضوع علمي النحو والصرف هوالكلمة والكلام(1)، مع أنّهم فرّقوا بينهما وقالوا: موضوع النحو هو الكلمةوالكلام من حيث الإعراب والبناء، وموضوع الصرف هو الكلمة والكلام منحيث الصحّة والاعتلال، ولا ريب في أنّ كلاًّ منهما جامع نوعي داخل تحتالجنس الذي هو الكلمة والكلام.
والحاصل: أنّ مراد المشهور من الجامع بين موضوعات المسائل ومرادآية اللّه البروجردي رحمهالله من الجامع بين محمولاتها إنّما هو الجامع النوعي.
وحينئذٍ، فإن علمنا بكون مجموعة معيّنة من المسائل داخلة في علم النحو
- (1) فيصيران علماً واحداً بناءاً على ما ذهب إليه المشهور من كون تمايز العلوم بتمايز الموضوعات.م ح ـ ى.