(صفحه66)
والمشكوكة صنفاً للعلم، فيكون الجامع المنتزع عن المسائل المعلومة صنفيّاً،وللمسائل المشكوكة أيضاً جامع صنفي آخر، فلابدّ من انتزاع الجامع النوعيالذي يعمّهما.
فحاصل الإشكال على المشهور وآية اللّه البروجردي رحمهالله أنّه من أينانكشف لهم نوعيّة الجامع لكي يكون ملاكاً للتمايز بين العلوم، وضابطلتشخيص كون المسائل المشكوكة داخلة في علم أو خارجةً عنه؟!
5ـ نظريّة المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» في مسألة تمايز العلوم
وبعض الأعلام بعدما نقل كلام المشهور من كون التمايز بتمايز الموضوعات،وكلام المحقّق الخراساني رحمهالله من أنّه بتمايز الأغراض قال:
والتحقيق في المقام أن يُقال: إنّ إطلاق كلّ من القولين ليس في محلّه.
وبيان ذلك: أنّ التمايز في العلوم تارةً يُراد به التمايز في مقام التعليموالتعلّم(1)، لكي يقتدر المتعلّم ويتمكّن من تمييز كلّ مسألة ترد عليه، ويعرفأنّها مسألة اُصوليّة أو مسألة فقهيّة أو غيرهما، واُخرى يراد به التمايز في مقامالتدوين، وبيان ما هو الداعي والباعث لاختيار المدوّن عدّة من القضايوالقواعد المتخالفة، وتدوينها علماً واحداً، وتسميتها باسم فارد، واختياره عدّةمن القضايا والقواعد المتخالفة الاُخرى وتدوينها علماً آخر، وتسميتها باسمآخر، وهكذا.
أمّا التمايز في المقام الأوّل، فيمكن أن يكون بكلّ واحد من الموضوعوالمحمول والغرض، بل يمكن أن يكون ببيان فهرس المسائل والأبواب إجمالاً.
- (1) كأن يبيّن معلّم النحو مثلاً ضابطة بها يقتدر المتعلِّمون تمييز المسائل النحويّة عن غيرها. منه مدّ ظلّه.
ج1
والوجه في ذلك هو أنّ حقيقة كلّ علم، حقيقة اعتباريّة(1)، وليست وحدتهوحدة بالحقيقة والذات ليكون تمييزه عن غيره بتباين الذات كما لو كانتحقيقة كلّ واحد منهما من مقولة على حدة، أو بالفصل كما لو كانت من مقولةواحدة، بل وحدتها بالاعتبار، وتمييز كلّ مركّب اعتباري عن مركّب اعتباريآخر، يمكن بأحد الاُمور المزبورة.
وأمّا التمايز في المقام الثاني فبالغرض، إذا كان للعلم غرض خارجي يترتّبعليه، كما هو الحال في كثير من العلوم المتداولة بين الناس، كعلم الفقهوالاُصول والنحو والصرف ونحوها(2).
وذلك لأنّ الداعي الذي يدعو المدوّن لأن يدوّن عدّة من القضايا المتباينةعلماً، كقضايا علم الاُصول مثلاً، وعدّة اُخرى منها علماً آخر، كقضايا علمالفقه، ليس إلاّ اشتراك هذه العدّة في غرض خاصّ، واشتراك تلك العدّة فيغرض خاصّ آخر، فلو لم يكن ذلك ملاك تمايز هذه العلوم بعضها عن بعضفي مرحلة التدوين، بل كان هو الموضوع، لكان اللازم على المدوّن أن يدوّنكلّ باب ـ بل كلّ مسألة ـ علماً مستقلاًّ، لوجود الملاك، كما ذكره صاحبالكفاية قدسسره .
- (1) والمراد بالمركّب الاعتباري مجموعة اُمور متعدّدة مسّماة باسم واحد لدخلها في غرض خاصّ،كالصلاة، فإنّها مركّبة من أجزاء مختلفة، بل من مقولات متباينة غير قابلة للاجتماع الواقعي، لكنّ الشارعاعتبرها شيئاً واحداً وسمّاها باسم الصلاة، لكونها بهذه الهيئة المركّبة ناهية عن الفحشاء والمنكر ومعراجالمؤمن وقربان كلّ تقيّ. منه مدّ ظلّه.
- (2) فإنّ لهذه العلوم غرضاً خارجيّاً يترتّب عليها، كصون اللسان عن الخطأ في المقال، في النحو، والاقتدارعلى تشخيص الأحكام الإلهيّة، في الفقه، فإنّ من تعلّم النحو لا يقول في محاوراته: «جائني زيداً» بليقول: «جائني زيد»، فله أثر عملي، ومن تعلّم الفقه واستنتج فيه وجوب صلاة الجمعة يذهب إلىالمصلّى ويؤدّيها، فله أيضاً غرض خارجي. منه مدّ ظلّه.
(صفحه68)
وأمّا إذا لم يكن للعلم غرض خارجي يترتّب عليه سوى العرفانوالإحاطة به، كعلم الفلسفة الاُولى، فامتيازه عن غيره إمّا بالذات أوبالموضوع أو بالمحمول.
كما إذا فرض أنّ غرضاً يدعو إلى تدوين علم يجعل الموضوع فيه«الكرة الأرضيّة» مثلاً، ويبحث فيه عن أحوالها من حيث الكمّيّة والكيفيّةوالوضع والأين، إلى نحو ذلك، وخواصّها الطبيعيّة ومزاياها على أنحائهالمختلفة.
أو إذا فرض أنّ غرضاً يدعو إلى تدوين علم يجعل موضوعه «الإنسان»ويبحث فيه عن حالاته الطارئة عليه، وعن صفاته من الظاهريّة والباطنيّة،وعن أعضائه وجوارحه وخواصّها، فامتياز العلم عن غيره في مثل ذلك، إمّبالذات أو بالموضوع، ولا ثالث لهما، لعدم غرض خارجي له ما عدا العرفانوالإحاطة، ليكون التمييز بذلك الغرض الخارجي.
كما أنّه قد يمكن الامتياز بالمحمول فيما إذا فرض أنّ غرض المدوّن يتعلّقبمعرفة ما تعرضه الحركة مثلاً، فله أن يدوّن علماً يبحث فيه عن ما تثبتالحركة له، سواء كان ما له الحركة من مقولة الجوهر أم من غيرها منالمقولات، فمثل هذا العلم لا امتياز له إلاّ بالمحمول.
وبما حقّقناه تبيّن لك وجه عدم صحّة إطلاق كلّ من القولين(1)، وأنّ تميّزأيّ علم عن آخر كما لا ينحصر بالموضوع، كذلك لا ينحصر بالغرض، بل كميمكن أن يكون بهما، يمكن أن يكون بالمحمول تارةً، وببيان الفهرس والأبواب
- (1) أي القول بكون تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، كما عليه المشهور، وبتمايز الأغراض، كما عليهالمحقّق الخراساني رحمهالله . م ح ـ ى.
ج1
إجمالاً اُخرى، بل بالذات ثالثة، على حسب اختلاف العلوم والمقامات(1).
هذا ما ذهب إليه بعض الأعلام«مدّ ظلّه» في المقام.
نقد مقالة السيّد الخوئي«مدّ ظلّه» حول تمايز العلوم
وفي كلامه مواقع للنظر:
1ـ إن قلنا بأنّ التمايز مرتبط بمقام التدوين(2)، كما هو مذهب المحقّقالخراساني رحمهالله حيث قال: «قد انقدح بما ذكرنا أنّ تمايز العلوم إنّما هو باختلافالأغراض الداعية إلى التدوين» وقلنا بأنّ التمايز في هذا المقام بالأغراض فلفرق بين الغرض الخارجي والعلمي، كما تقدّم(3).
توضيح ذلك: أنّك عرفت أنّ للغرض وجوداً ذهنيّاً متقدِّماً على التدوين،ووجوداً خارجيّاً متأخّراً عنه، وما هو داعٍ إلى التدوين، وبه يمتاز كلّ علم عنسائر العلوم إنّما هو الغرض بوجوده الذهني.
ولا فرق في ذلك بين العلوم التي يترتّب عليها غرض عملي، كعلم النحوالذي فائدته «صون اللسان عن الخطأ في المقال» والعلوم التي لا تترتّب عليهإلاّ «معرفة الأشياء والعلم بحقائقها كما هي» كالفلسفة.
لأنّ «صون اللسان عن الخطأ في المقال» كما أنّه بوجوده الذهني يكونداعياً إلى تدوين علم النحو، كذلك «العلم بحقائق الأشياء كما هي» أيضبوجوده الذهني يكون داعياً إلى تدوين علم الفلسفة.
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 30.
- (2) وحيث إنّ التمايز مرتبط بمقام التدوين، فلا ندخل فيما يرد على ما ذكره حول التمايز في مقام التعليموالتعلّم. منه مدّ ظلّه.
(صفحه70)
فلو كان الغرض الداعي إلى التدوين ملاك تمايز النحو عن سائر العلوم،فكذلك الأمر في الفلسفة، ولا ملزم للفرق بينهما في ذلك أصلاً.
2ـ أنّه«مدّ ظلّه» قال في القسم الأوّل من العلوم، أعني ما يترتّب عليه غرضخارجي: لابدّ من أن يكون التمايز في هذا القسم بالغرض، إذ لو لم يكن ذلكملاك تمايز هذه العلوم بعضها عن بعض في مرحلة التدوين، بل كان هوالموضوع ـ كما عليه المشهور ـ لكان اللازم على المدوّن أن يدوّن كلّ باب ـ بلكلّ مسألة ـ علماً مستقلاًّ، لوجود الملاك، كما ذكره صاحب الكفاية قدسسره .
وفيه: أنّه تخيّل ـ كالمحقّق الخراساني رحمهالله ـ أنّ المشهور جعلوا موضوعاتالمسائل ملاكاً لتمايز العلوم، وقد عرفت(1) أنّه تخيّل باطل، فإنّ ظاهر كلامهمأنّ موضوعات العلوم تكون ملاكاً للتمايز، لا موضوعات المسائل، وحيث إنّموضوع كلّ علم أمر واحد فلا يرد عليهم هذا الإشكال.
3ـ أنّه«مدّ ظلّه» قال في القسم الثاني من العلوم: وأمّا إذا لم يكن للعلم غرضخارجي يترتّب عليه سوى العرفان والإحاطة، كعلم الفلسفة الاُولى،فامتيازه عن غيره إمّا بالذات أو بالموضوع أو بالمحمول.
وفيه أوّلاً: أنّه إن أراد من التمايز بالذات التمايز بالسنخيّة كما قالالإمام«مدّ ظلّه» فلماذا لم يذكره في مقام التعليم والتعلّم، مع أنّ السنخيّة أمر واضحفي كلا المقامين؟
وإن أراد به التمايز بالجنس والفصل فهو مغاير لما ذكره في مقام التعليموالتعلّم من أنّ حقيقة كلّ علم حقيقة اعتباريّة، وليست وحدتها وحدةبالحقيقة والذات، ليكون تمييزه عن غيره بتمام الذات أو بالفصل.