ج1
فتأخّر السنخيّة بحسب الوجود عن المسائل التي هي متأخّرة عن الغرضبوجوده في ذهن المدوّن لا يستلزم كون التمايز بتمايز الأغراض الداعية إلىالتدوين، بل التمايز بالسنخيّة، لأنّها كاشفة عن الأغراض.
فإذا شككتم في مسألة أنّها هل هي من مسائل النحو مثلاً أم لا؟فاعرضوها على المسائل النحويّة المعلومة، فإن رأيتموها مسانخة لها فهيمسألة نحويّة، وإلاّ فلا.
ولا يخفى عليك أنّه لا دخل لقلّة المسائل وكثرتها في وجود السنخيّة بينها،فإنّ مسائل علم النحو مثلاً متسانخة، سواء كانت ثلاثاً أو ثلاثة آلاف.
بخلاف الجامع بين الموضوعات الذي قال المشهور بكونه ملاك التمايز، أوالمحمولات الذي قال اُستاذنا البروجردي رحمهالله بكونه ملاكه، فإنّ لدخولالمسائل المشكوكة في العلم وخروجها عنه دخلاً في الجامع المنتزع كمعرفت(1) سابقاً.
فالحقّ بعد ملاحظة جميع الأبحاث المتقدِّمة في مسألة تمايز العلوم هو مذهب إليه الإمام«مدّ ظلّه»، لسلامته من الإشكال، ثمّ ما ذهب إليه المحقّقالخراساني رحمهالله من كون التمايز بتمايز الأغراض، لأنّ ما يرد عليه من الإشكالأقلّ ممّا يرد على سائر الأقوال.
هذا تمام الكلام في تمايز العلوم.
(صفحه76)
في موضوع علم الاُصول
المقام الثالث: في موضوع علم الاُصول
إنّهم بعد اختلافهم في احتياج كلّ علم إلى الموضوع اتّفقوا على أنّ لعلمالاُصول موضوعاً(1)، لكنّهم اختلفوا فيه على أقوال:
1ـ نظريّة المشهور والمحقّق القمي في موضوع علم الاُصول
ذهب المشهور منهم المحقّق القمي إلى أنّه الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة(2).
أقول: تقدّم أنّ المشهور قالوا بوحدة موضوع كلّ علم، ومع ذلك ذهبوهاهنا إلى أنّ موضوع علم الاُصول هو الأدلّة الأربعة، وبينهما منافرة ظاهرة.
إن قلت: لعلّ مرادهم بالأدلّة الأربعة بما هي أدلّة، الجامع بينها أعني«الحجّة في الفقه»، وهذا الجامع شيء واحد، وإن كان مصاديقه متعدّدة.
قلت: لو كان هذا مرادهم فما الوجه في عدولهم عن التعبير بالجامع الذيهو الموضوع واقعاً إلى التعبير بمصاديقه الأربعة؟!
وأورد عليهم صاحب الفصول رحمهالله بأنّ الموضوع لو كان هو الأدلّة الأربعة
- (1) إلاّ المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» فإنّه قال في المحاضرات 1: 33: وأمّا الكلام في موضوع هذا العلم، فقدسبق أنّه أقمنا البرهان على أنّه لا موضوع له واقعاً. م ح ـ ى.
- (2) قال في قوانين الاُصول 1: 9: وأمّا موضوعه فهو أدلّة الفقه، وهي الكتاب والسنّة والإجماع والعقل.م ح ـ ى.
ج1
بوصف كونها أدلّة فلا يعقل البحث عن حجّيّة ظواهر الكتاب والإجماعوخبر الواحد ونحوها، لأنّ البحث عن حجّيّة هذه الاُمور بوصف كونها حجّةمن قبيل البحث عن ثبوت المحمول للموضوع في القضايا الضروريّة بشرطالمحمول، وهو غير معقول(1).
2ـ كلام صاحب الفصول في المقام
ولأجل ذلك ذهب صاحب الفصول رحمهالله إلى كون الموضوع ذوات الأدلّةالأربعة بما هي هي، أعني نفس الكتاب والسنّة والإجماع والعقل، لا بوصفكونها حجّة(2).
نقد نظريّة صاحب الفصول في موضوع علم الاُصول
وأورد عليه المحقّق الخراساني رحمهالله في الكفاية بأنّه إن أراد بالسنّة السنّةالمحكيّة فقط، أعني: نفس قول المعصوم وفعله وتقريره يلزمه خروج البحثعن حجّيّة خبر الواحد عن المسائل الاُصوليّة، لأنّ موضوع هذه المسألةرواية زرارة مثلاً، وهي كما لا تكون من مصاديق الكتاب أو الإجماع أوالعقل، كذلك لا تكون من مصاديق السنّة المحكيّة، كما هو واضح.
وكذا يلزمه خروج جلّ مباحث التعادل والترجيح عنها، لأنّ موضوعههو الروايتان المتعارضتان، وهما ليستا من مصاديق السنّة المحكيّة.
والشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله تفطّن لهذا الإشكال قبل المحقّق صاحبالكفاية، وأجاب عنه في مبحث حجّيّة خبر الواحد من الرسائل، بأنّ البحث
(صفحه78)
عن حجّيّة خبر الواحد يكون بمعنى أنّ قول المعصوم عليهالسلام وفعله وتقريره هليثبت بخبر الواحد أم لا؟
فالموضوع في مسائل هذا البحث هو السنّة المحكيّة من دون ورودالإشكال(1).
وهو رحمهالله وإن لم يُجب عن الإشكال بخروج مبحث التعادل والترجيح عنالمسائل الاُصوليّة، إلاّ أنّ لازم هذا الجواب المذكور أن يُجاب عنه أيضاً بأنّالبحث فيه وإن كان بحسب الظاهر عن الروايتين المتعارضتين إلاّ أنّ الكلامواقعاً في أنّ قول المعصوم عليهالسلام أو فعله أو تقريره بأيّ الخبرين المتعارضينيثبت؟ ويُجاب: بأنّه يثبت بالخبر ذي المزيّة إن كان أحدهما ذا مزيّة علىالآخر، وإلاّ فمقتضى القاعدة عدم الثبوت بواحد منهما، لأنّ مقتضاها هوالتساقط، لكن مقتضى الأخبار هو التخيير، فيثبت قول الإمام عليهالسلام بما اختارهالمجتهد من الخبرين المتعارضين المتكافئين.
الواقعي فهو مفاد كان التامّة وليس بحثاً عن عوارض السنّة، لأنّها مفادوأورد عليه المحقّق الخراساني رحمهالله بأنّ الشيخ رحمهالله إن أراد بالثبوت الثبوتكانالناقصة.
وبعبارة اُخرى: موضوع العلم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة، ففيمسألة حجّيّة خبر الواحد ومسألة التعادل والترجيح لابدّ من أن يكونالبحث فيها عن عوارض السنّة، وعرض الشيء ما يعرضه بنحو مفاد كانالناقصة بعد الفراغ عن أصل تحقّق المعروض الذي يعبّر عنه بمفاد كان التامّة،فإذا قلنا في مبحث حجّيّة خبر الواحد: «قول الإمام عليهالسلام هل يثبت بخبر
- (1) فرائد الاُصول 1: 238.
ج1
الواحد أم لا؟» وأردنا منه الثبوت الواقعي كان معناه أنّ قول الإمام هليتحقّق عند خبر مثل زرارة أم لا؟ وهذا مفاد كان التامّة، فلا يكون هذالبحث بحثاً عن عوارض السنّة.
وإن أراد الثبوت التعبّدي فهو بمعنى وجوب ترتيب الأثر على الخبر الحاكيللسنّة، فهو من عوارضه لا من عوارضها كما لا يخفى.
هذا كلّه على تقدير إرادة قول المعصوم وفعله وتقريره من السنّة المأخوذةفي موضوع علم الاُصول في كلام صاحب الفصول.
وإن أراد منها الأعمّ منها ومن الخبر الحاكي لها فالبحث في تلك المباحثأعني مباحث حجّيّة خبر الواحد والتعادل والترجيح وإن كان عن أحوالالسنّة بهذا المعنى، إلاّ أنّ البحث في كثير من مسائل علم الاُصول خصوصمباحث الألفاظ لا يكون بحثاً عن العوارض الذاتيّة للأدلّة الأربعة، فإنّالبحث عن مفاد صيغة افعل ولا تفعل وفي مفاد المشتقّ لا يختصّ بالكتابوالسنّة، بل يعمّ غيرهما من كلام العرب أيضاً، ولأجل كون هذه المباحثعامّة لكلام العرب مطلقاً يستدلّ عليها بالتبادر، وبالأوامر الصادرة منالموالي العرفيّة إلى عبيدهم.
نعم، ثمرة هذه المباحث معرفة خصوص أحوال الكتاب والسنّة، حيث إنّالاُصولي لا يقصد بها إلاّ استنباط الأحكام الشرعيّة بهما، لكن موضوع هذهالمباحث أعمّ، فلا يكون البحث فيها بحثاً عن العوارض الذاتيّة للأدلّةالأربعة(1).
هذا حاصل كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في الإيراد على صاحب الفصول.