(صفحه90)
2ـ مذهب المحقّق الخراساني رحمهالله في تعريف علم الاُصول
ولأجل هذين الإشكالين عدل صاحب الكفاية من تعريفهم وقال:
الاُولى تعريفه بأنّه «صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريقاستنباط الأحكام أو التي ينتهى إليها في مقام العمل»(1).
ومسألة حجّيّة الظنّ على الحكومة وهكذا مسائل الاُصول العمليّة فيالشبهات الحكميّة داخلتان في الشقّ الثاني من هذا التعريف، فإنّ المجتهد وإن لميستنبط بهما الأحكام الشرعيّة، لكنّه يتمسّك بهما في مقام العمل عند فقدالدليل واضطراره إلى العمل.
البحث حول كلام المحقّق الخراساني رحمهالله
وقال سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه»: وظنّي أنّ هذا التعريف أسوءالتعاريف المتداولة، ثمّ استشكل عليه بوجهين:
أحدهما: أنّ الصناعة لا تستعمل إلاّ في العلوم العمليّة والحرف التي لها أثرمحسوس، كالنجارة والخياطة، ولا يصحّ إطلاقها على مثل علم الاُصول، ولذيقال في التعبيرات: العلم والصنعة.
ثمّ إنّ مفاد هذا التعريف تغاير علم الاُصول مع مسائله وأنّ معرفتها تكونبتوسّطه، فعلم الاُصول على هذا التعريف لا ينطبق إلاّ على مبادئ المسائل،مع أنّه لم يذهب أحد إلى أنّ العلم هو المبادئ فقط، بل هو إمّا نفس المسائل أوهي مع مباديها.
الثاني: أنّه لا يكون مانعاً، لشموله بعض القواعد الفقهيّة، كقاعدة «كلّ م
ج1
يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» فإنّه قاعدة تقع في طريق استنباط حكمالمقبوض بالبيع الفاسد مثلاً وأنّه يضمن(1).
لكن يمكن الجواب عنه بأنّ استنتاج الحكم بالقواعد الفقهيّة ليس من قبيلالاستنباط، بل من قبيل تطبيق الكلّي على المصداق، فإنّا نقول مثلاً: البيع ميضمن بصحيحه، وكلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، فالبيع يضمنبفاسده، وقد عرفت أنّ تطبيق الكلّي على المصداق لا يسمّى استنباطاً.
ويرد على صاحب الكفاية إشكالان مهمّان آخران:
الأوّل: ما أورده عليه المحقّق الشيخ محمّد حسين الاصفهاني(2) رحمهالله فيحاشيته على الكفاية، وهو أنّه إن كان للأمرين المأخوذين في التعريف«1ـ القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام، 2ـ القواعد التيينتهى إليها في مقام العمل» جامع، فالحقّ أخذه في التعريف، ولا يصحّ العدولعنه إلى ذكر مصداقيه، وإن لم يكن لهما جامع فهل يترتّب عليهما غرض واحدأو غرضان؟
الأوّل: مستحيل، لامتناع ترتّب أثر واحد على أمرين مستقلّين ليشتركان في شيء أصلاً كما ذكره كراراً في الكفاية، والثاني: ذهب هو رحمهالله إلىبُعده بل استحالته وقوعاً فيما سبق(3).
هذا حاصل ما أورده المحقّق الاصفهاني رحمهالله على صاحب الكفاية مع توضيح
- (2) المحقّق الاصفهاني رحمهالله كان من أجلاّء تلامذة المحقّق صاحب الكفاية ودوّن جلّ الحواشي عليها فيحياة مؤلّفها المحقّق الخراساني رحمهالله بدليل أنّه كثيراً ما يقول ـ على ما في النسخ الأوّليّة من الحاشية ـ : «قولهدام ظلّه». منه مدّ ظلّه.
(صفحه92)
منّا(1).
وهو إشكال متين.
ولا بأس بالنظر إلى أنّه هل يمكن في المقام تصوير جامع بين الأمرين بحيثلو أخذه صاحب الكفاية مكانهما في التعريف لسدّ باب هذا الإشكال أم لا؟
إنّ ما يمكن أن يُقال بكونه جامعاً أمران:
أ ـ «القواعد التي توجب تعيّن الوظيفة في مقام العمل».
ب ـ «القواعد التي ترفع التحيّر في مقام العمل».
فإنّ كلاًّ منهما يعمّ القواعد التي تقع في طريق الاستنباط، والتي ينتهى إليهفي مقام العمل، ضرورة أنّ ارتفاع التحيّر وكذلك تعيّن الوظيفة تارةً يتحقّقبمثل خبر زرارة وظاهر الكتاب، واُخرى بمثل الظنّ الانسداديوالاستصحاب، ففي يوم الجمعة يتعيّن وظيفة المكلّف ويرفع تحيّره إمّا بقيامخبر العادل على وجوب صلاة الجمعة أو بجريان الاستصحاب كما لا يخفى.هذا ما يخطر بالبال في بدو الأمر.
لكنّ النظر الدقيق يقضي ببطلان كلا الجامعين، لأنّ كلاًّ منهما يعمّ القواعدالفقهيّة، مثل «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» فلا يكون مانعاً.
والحاصل: أنّه ليس هاهنا جامع مأمون من الإشكال، ولعلّ المحقّقالخراساني رحمهالله لأجل هذا عدل عن الجامع إلى ذكر مصداقيه.
الثاني: أنّ هذا التعريف لا يكون جامعاً على ما ذهب إليه المحقّقالخراساني رحمهالله في باب حجّيّة الأمارات الشرعيّة.
توضيح ذلك: أنّ المشهور قائل بأنّ معنى جعل الحجّيّة للأمارات من قبل
ج1
الشارع جعل حكم ظاهري مماثل لمؤدّاها، وإن كانت مخالفة للواقع.
ولكنّ المحقّق الخراساني رحمهالله قال في موارد من الكفاية: إنّ الحجّيّة في بابالأمارات الشرعيّة تكون بمعنى المنجّزيّة في صورة المصادفة للواقع والمعذّريّةفي صورة المخالفة، كما أنّه تكون حجّيّة القطع أيضاً بهذا المعنى، إلاّ أنّ الحاكمبها في القطع هو العقل وفي الأمارات هو الشرع(1)، فالأمارة توجب تنجّزالواقع عند الموافقة والعذر عند المخالفة من دون أن يجعل على طبق مؤدّاهحكم ظاهري، كما أنّ القطع أيضاً كذلك.
إذا عرفت هذا فنقول: هذا التعريف لا يشمل مثل خبر الواحد وسائرالحجج الشرعيّة، فإنّ خبر زرارة مثلاً إذا قام بوجوب صلاة الجمعة لا يحصللنا القطع بوجوبها، بل ولا الظنّ في كثير من الموارد التي قام بها خبر الواحدأو سائر الحجج الشرعيّة، فلا يستنبط بها الحكم الشرعي قطعاً ولا ظنّاً، فليشملها قوله: «القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام»، وليشملها أيضاً الشقّ الثاني من التعريف، لأنّ «القواعد التي ينتهى إليها في مقامالعمل» هي القواعد التي يرجع إليها بعد الفحص واليأس عن العلم والعلمي،كالاُصول العمليّة، فإنّ كونها منتهى إليها في مقام العمل نظير كون الكيّ(2)آخر الدواء، والأمارات الشرعيّة ليست كذلك، إذ لا يناط حجّيّتها بالفحصواليأس عن دليل آخر على حكم الواقعة.
وبالجملة: يرد على ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله في تعريف علمالاُصول ـ مضافاً إلى ما أورد عليه المحقّق الاصفهاني ـ أنّه لا يكون جامعاً،
- (1) فالحجّيّة في باب الأمارات حكم شرعي وضعي كالزوجيّة والملكيّة، ووضعها ورفعها بيد الشارع،بخلاف حجّيّة القطع التي يحكم بها العقل ولا تنالها يد الجعل إثباتاً ونفياً. منه مدّ ظلّه.
- (2) يقال في المثل: «آخر الدواء الكيّ» وهو بمعنى إحراق الجلد بحديدة ونحوها. م ح ـ ى.
(صفحه94)
لاستلزامه خروج الحجج والأمارات الشرعيّة ـ على ما ذهب إليه في معنىحجّيّتها ـ مع سعة مباحثها في الاُصول وكونها من المهمّات، كما اعترف عنداستشكاله على صاحب الفصول في موضوع علم الاُصول بأنّ مسألة حجّيّةخبر الواحد من أهمّ المباحث الاُصوليّة.
3ـ مقالة المحقّق النائيني في تعريف علم الاُصول
وعرّفه المحقّق النائيني رحمهالله بأنّه عبارة عن «العلم بالكبريات التي لو انضمّتإليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي كلّي»(1).
ويرد عليه ـ مضافاً إلى عدم صحّة أخذ العلم في التعريف كما عرفت(2) ـ أنّهلا يكون مانعاً كما قال الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه»، لشموله بعض القواعدالفقهيّة(3).
توضيح ذلك أنّ القواعد الفقهيّة على قسمين:
أ ـ ما هو بمنزلة النوع، فيكون تحته أفراد ومصاديق جزئيّة، مثل «كلّ خمرحرام» حيث إنّ مصاديقه: «هذا الخمر حرام، ذلك الخمر حرام» وهكذا.
ب ـ ما هو بمنزلة الجنس، فيكون تحته أنواع، مثل «كلّ ما يضمن بصحيحهيضمن بفاسده» حيث إنّ تحته أنواعاً كلّيّة، كالبيع.
وتعريف المحقّق النائيني رحمهالله يعمّ هذا القسم الثاني من القواعد الفقهيّة، لأنّقاعدة «كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» مثلاً لو انضمّ إليها قولنا:«البيع يضمن بصحيحه» نستنتج منهما أنّ البيع يضمن بفاسده، وهو حكم
- (1) فوائد الاُصول 1 و 2: 19.