(الصفحة 102)
وأمّا العهدة ، فهي متعلّقة بالموجود في الخارج مع وصف وجوده في الخارج ، فالعين المأخوذة في الحديث قد تعلّقت بنفسها العهدة ، ويعبّرون عن العهدة والضمان في الفارسيّة بـ «عهده دارى» ، كمافي الكفالة التي هي التّعهد بالإضافة إلى إنسان خاصّ وشخص معيّن ، ويترتّب على هذا الضمان الذي هو حكم وضعي اعتباري حكمان تكليفيان :أحدهما :وجوب ردّالعين ما دامت باقية ، ثانيهما : وجوب ردّ بدلها ـ مثلا أوقيمة ـ بعدتلفهاوانعدامها ،ومجموع هذين الحكمين لا يكون في غير مورد الضمان .
وعليه : فلا مجال للتفكيك بينهما وجعل وجوب ردّ العين مع بقائها في مورد غير الضمان أيضاً كالأمانة ـ حيث يجب على الأمين ردّها إلى صاحبها ـ دليلا على عدم ثبوت الضمان مع بقاء العين ، كما يظهر من سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الإمام الخميني ـ دام ظلّه العالي ـ في كتابه في البيع(1) .
فإنّ اللازم ـ كما عرفت ـ ملاحظة مجموع الحكمين ، ألا ترى أنّ جواز التصرّف في مورد الإباحة لا يكون دليلا على عدم ثبوت الملكية التي يترتّب عليها جواز التصرّف أيضاً ; فانّ امتياز الملكية إنّما هو بمجموع الآثار التي لا يوجد في غيرها ، فإنّ منها الانتقال إلى الوارث بعد الموت ، وتعلّق مثل الخمس ببعض مواردها ، وشبههما ممّا لا يوجد في غيرها حتّى الإباحة المطلقة التي يجوز معها التصرف مطلقاً حتّى التصرفات النّاقلة .
وبالجملة : فما يترتّب على الضمان مجموع الحكمين الذي لا يكون في غير مورد الضمان أصلا .
وعليه : فالاتّحاد والهوهوية المعتبرة في القضية الحملية في قوله : «ما أخذت اليد عليها» إنّما هو باعتبار كون الموجود الخارجي نفس ما تعلّق به هذا الأمر الاعتباري الّذي هو الضمان ، فلم يتحقّق اتّحاد الأمر الخارجي مع الأمر
- (1) كتاب البيع 1 : 392 ـ 394 .
(الصفحة 103)
الاعتباري ، بل الاتحاد بين الأمر الخارجي وبين كونه متعلّقاً للأمر الاعتباري ، فالمقام نظير قوله : «هذه الدار مستأجرة» ; فإنّه لا خفاء في تحقّق ملاك الحمل فيها مع كون الاستئجار أمراً اعتبارياً ; لأنّ الاتّحاد إنّما هو بين الدار ، وبين كونها متعلّقة للاستئجار المتعلّق بالدار الخارجية ، كما هو واضح .
ثمّ إنّه ذكر سيّدنا الاُستاذ(1) (قدس سره) أنّه قد يتعلّق الضمان بالكلّي الذي له موطن آخر غير ذمّة الضّامن ، وأثره حينئذ جواز مطالبة المضمون له من الضامن بذلك الكلّي إن لم يقدر على استيفائه وأخذه من المضمون عنه «المديون» ، وليس أثره عند العقلاء والعرف مجرّد اشتغال ذمّة الضامن للمضمون ، ولكن استقرّ مذهب الإماميّة في كتاب «الضمان» على أنّ المراد به هناك هو انتقال الذمّة وتحقّق الاشتغال للضّامن في ظرف خاصّ(2) ، ومنشؤه دلالة الأدلّة الخاصّة والروايات المعتبرة عليه(3) ، وعليه : فما هو مذهبنا في باب الضمان مخالف لما هو مقتضاه بنظر العقلاء .
أمّا فقهاء العامّة ، فحيث لا يرون اعتباراً للروايات التي اُشير إليها ، فلا محالة ذهبوا إلى أنّ المراد بالضمان في كتاب الضمان هو ما عليه العقلاء ، فقالوا : إنّه عبارة عن ضمّ ذمّة إلى ذمّة اُخرى(4) ، ولا يكون مرادهم بذلك ثبوت المال في ذمّة شخصين ; كما إذا كان له دين على رجلين ; ضرورة عدم استحقاق الدائن أكثر من مال واحد ودين فارد ، فلا يمكن ثبوته في ظرفين ، وإنّما مرادهم من الذمّة التي أُضيف إليها الضمّ ، هو العهدة التي هي معنى الضمان حقيقة ، ومرجعه إلى ضمّ العهدة إلى اشتغال الذمّة وعدم تحقّق البراءة للمديون بمجرّد تحقّق الضمان ، ففي الحقيقة
- (1) كتاب الغصب للمحقق البروجردي : 130 ـ 131 و 141 ـ 147 .
(2) المقنعة : 814 ، النهاية : 314 ـ 315 ، شرائع الإسلام : 2 / 108 ، قواعد الأحكام : 2 / 158 ، جواهر الكلام : 26 / 113 .
(3) وسائل الشيعة : 18 / . 422 ـ 424، كتاب الضمان ب 2 و 3 .
(4) المغني لابن قدامة : 5 / 70 ، الشرح الكبير : 5 / 70 ، المجموع شرح المهذّب : 14 / 252 .
(الصفحة 104)
يكون في البين اشتغال وعهدة قد تعلّق الأوّل بالكلّي ; لأنّ الثابت في الذمّة لا يكون إلاّ كلّياً ، والثاني بما اشتغلت به ذمة المديون مع وصف اشتغال الذمّة به ; لأنّه يصير حينئذ متشخّصاً ، لأنّ الاشتغال وإن كان بأمر كلّي ، لكن الكلّي المشتغل به ذمّة المديون لا يكون كليّاً ، فهو نظير الماهية الموجودة في الذهن ; فإنّ الماهية وإن كانت كليّة إلاّ أنّها بوصف وجودها في الذهن لا تكون إلاّ جزئية .
ثم إنّ الظاهر عدم تحقّق الضمان بالمعنى الذي ذكرناه في العقد الصّحيح ، خلافاً للشيخ الأعظم (قدس سره) ; فإنّه حين فسّر الضمان بالنحو الذي عرفت ذكر أنّ العقد الصحيح فيه الضمان ، غاية الأمر أنّ الضمان الثابت فيه هو الضمان بالمسمّى ، ومرجعه إلى أنّه على تقدير تلف المبيع في يد المشتري الضامن يكون دركه وخسارته عليه ، غاية الأمر ثبوت الخسارة بمقدار الثمن ; سواء كان مساوياً للقيمة الواقعية أومخالفاً لها(1) .
وخلافاً للمحقّق الإصفهاني (قدس سره) ; فإنّه مع تفسيره الضمان بالنحو الذي ذكرناه ، أفاد أنّه قد يكون بتسبيب من الشخص ، كما في مطلق المعاوضات ، لتعهد كلّ منهما والتزامه بأخذ المال ببدله ، ولذا عبّر عنه بضمان المعاوضة ، فليس مجرّد كونه ذا عوض أو مملوكاً بعوض مناط الضمان ، بل تعهّد أخذه ببدله هو المناسب للضمان(2) .
هذا ، ولكنّ الظاهر عدم إطلاقه بنحو الحقيقة في المعاوضات الصحيحة ، وإطلاقه عليها في قاعدة «ما يضمن» لا دلالة له على ذلك ; لعدم كون القاعدة بالعبارة المعروفة ممّا دلّ عليه آية أو رواية أو إجماع ، ولذا اعترض أكثر محشّى المكاسب(3) على الشيخ الأعظم (قدس سره) بلحاظ جعل البحث في مفردات القاعدة مهمّاً ،
- (1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 183 و 188 ـ 189 .
(2) حاشية كتاب المكاسب للمحقق الإصفهاني : 1 / 307 ـ 308 .
(3) المحقق الخراساني في حاشيته على المكاسب : 30 ، والسيد اليزدي في حاشيته على المكاسب : 1 / 454 ـ 457 ، والمحقق الإيراواني في حاشيته على المكاسب : 2 / 112 ـ 115 .
(الصفحة 105)
نظراً إلى ما ذكرنا ، وعدم كون الإطلاق فيها ـ على تقدير الإغماض عمّـا ذكرنا ـ حقيقيّاً ; لأنّه يحتمل أن يكون من باب المشاكلة ، كما في آية الاعتداء(1) ، وقد صرّح بذلك المحقّق الخراساني (قدس سره) في تعليقة المكاسب(2) .
هذا ، مضافاً إلى أنّ لازم ذلك التفصيل في أموال المالك من جهة إطلاق الضمان ، فإن كان منتقلا إليه بالإرث ونحوه لا يقال : إنّه ضامن له ، وإن كان منتقلا إليه بالبيع ونحوه من المعاوضات يقال : هو ضامن له ، مع أنّ التفصيل بهذا النحو خلاف ما عليه العقلاء ، كما لا يخفى .
ثم إنّه ذكر سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الخميني ـ دام ظلّه العالي ـ في تحقيق معنى الضمان كلاماً ملخّصه : أنّ الضمان المعهود المغروس في أذهان العقلاء ، هو عهدة الغرامة والخسارة ، ففي المثلي بالمثل ، وفي القيمي بالقيمة يوم الإتلاف ، وأنّ ضمان العين ـ بمعنى أنّ نفس العين على عهدة الضامن في المثليات والقيميات ـ خلاف المتعارف والمعهود عندهم ، وفي مثله لابدّ من ورود دليل صريح مخالف لبنائهم وديدنهم .
وأمّا مثل ما ورد في باب الضمانات ـ كضمان اليد والإتلاف ـ كحديث اليد وغيره ، فلا ينقدح في ذهن العرف والعقلاء منه ما يخالف بناءهم في الضمانات ، فلا يفهم من «على اليد ما أخذت»(3) أنّ نفس المأخوذ حال التلف في العهدة ، فضلا عن سائر الروايات ، وفي قوله (عليه السلام) : «فعليه ما أصابت ـ الدابّة ـ بيدها ورجلها»(4)إذا بني على وقوع ما أصابت الدابّة على العهدة ، يكون ذلك أمراً مستنكراً عند
- (1) سورة البقرة 2 : 194 .
(2) حاشية المكاسب للمحقّق الخراساني : 30 .
(3) تقدم في ص 28 .
(4) الكافي: 7 / 351 ح 2، تهذيب الأحكام: 10 / 225 ح 886، الاستبصار: 4 / 285 ح 1078، وعنها وسائل الشيعة: 29 / 247، كتاب الديات، أبواب موجبات الضمان ب 13 ح 2 .
(الصفحة 106)
العرف ، فحمل تلك الروايات على كثرتها على الضمان المعهود المغروس في أذهان العقلاء حمل قريب جدّاً ، موافق لفهم العرف والعقلاء .
قال : بل الظاهر من حديث اليد غير ما أفاده المحقّقون ، ممّا لازمه التعرّض لأداء التالف حتّى يلتزم بأنّ أداء المثل والقيمة أداء للشيء بنحو ، كما أشرنا إليه . والتحقيق : أنّ الغاية المذكورة فيه غاية للضمان ، والعهدة في زمان وجود العين ; فإنّ قوله (صلى الله عليه وآله) : «على اليد ما أخذت» يراد منه أنّ الآخذ ضامن للمأخوذ ; بمعنى أنّه لو تلف تكون خسارته عليه ، وغاية هذا الأمر التعليقي ـ أي عهدة الخسارة على فرض التلف ـ هو أداء نفس العين ليس إلاّ(1) .
أقول : يرد عليه ـ مضافاً إلى ما عرفت من الفرق بين الثبوت على العهدة الذي هو معنى الضمان ، وبين اشتغال الذمّة بالمثل أو القيمة ، وإلى أنّ الظّاهر أنّه لا فرق عند العقلاء والعرف فيما يرجع إلى معنى الضمان بين صورة وجود العين ، وصورة تلفها وانعدامها بحيث يكون معنى الضمان في صورة البقاء ثبوت نفس العين على العهدة ، وفي صورة التلف ثبوت المثل أو القيمة على العهدة بحيث يكون ثبوت نفس العين في هذه الصورة مخالفاً لنظر العرف ـ أنّ ظاهر قوله : «من أتلف مال الغير فهو له ضامن»(2) فرض الضمان في صورة التلف مع إضافته إلى المتلف ـ بالفتح ـ ولا معنى له إلاّ كون العين بوجودها الاعتباري بعد التلف ثابتة على عهدة المتلف ـ بالكسر ـ .
فالتعبير بالضمان في قاعدة الإتلاف يرشدنا إلى عدم كون ضمان العين محدوداً ببقائها وعدم تلفها ، بل هو ثابت بعد التلف أيضاً ، ولا يجتمع ذلك إلاّ مع اعتبار بقاء
- (1) كتاب البيع : 1 / 506 ـ 508 .
(2) لم نجده في كتب الحديث بهذا اللّفظ ، فمن المحتمل قويّاً كونه من الروايات الواردة في موارد مختلفة ، مثل ما ورد في وسائل الشيعة : 27 / 327 ، كتاب الشهادات ب 11 .