(الصفحة 130)
هذا الثبوت بين ما قبل التلف وما بعده ، فبعده أيضاً تكون العين على العهدة كقبله .
غاية الأمر أنّ التلف إنّما يؤثّر في الغاية وهي الأداء ; حيث إنّه قبل التلف كان أداء العين بجميع الخصوصيات ممكناً ، وبعده امتنع ذلك وصار محالا ، وحينئذ ينتقل إلى المرتبة الثانية ; وهي أداء المثل مع فرض مثليّته ، وبعدها إلى المرتبة الثالثة ; وهي أداء القيمة مع كونه قيميّاً ، ولكنّ الانتقال إلى القيمة إنّما هو في ما يرتبط بالاداء وبالغاية ، ولا ارتباط له بأصل الضمان ، فمادام لم يؤدّ القيمة تكون العين المأخوذة باقية على العهدة وثابتة على اليد ، فإذا أراد ردّها ليرتفع الضمان ، فحيث لا يكون قادراً على ردّ العين لفرض التلف ، ولا على ردّ مثلها لعدم كونها مثليّة ، فاللازم ردّ قيمتها ، ومن الواضح أنّ القيمة التي يجب ردّها حينئذ هي القيمة للعين في حال الأداء والدّفع .
وبعبارة اُخرى : الواجب عليه ردّ العين في هذه الحالة أيضاً ، وحيث إنّه ممتنع ، فتصل النوبة إلى ماليتها القائمة مقامها ، وهي الماليّة في حال الردّ والأداء .
والظاهر وقوع الخلط في كلام القائل بين الضمان المغيّى ، وبين الأداء الذي هي الغاية ، فرأى أنّه حيث لا يمكن ردّ العين مع جميع الجهات ، واللازم ردّها ببعضها ، فيكون الضمان أيضاً مرتبطاً بذلك البعض ، مع أنّ الضمان إنّما هو بالإضافة إلى العين في جميع الحالات ، والغاية له مراتب ودرجات ، ونتيجته لزوم أداء قيمة يوم الأداء ; لامتناع أداء العين بجميع الخصوصيات .
ويؤيّد ما ذكرنا الحكم بضمان النماءات التي تحصل للعين المغصوبة بعد الغصب ، وإن تلفت تلك النماءات بعد حصولها ، كما لو سمنت الشاة مثلا في يد الغاصب ، ثمّ زال عنها السمن وعادت حالتها الاُولى ; فإنّ منشأ الحكم بضمانها هو كون المضمون هي العين بجميع الخصوصيات ، وهي الثابتة على العهدة وعلى اليد . ودعوى كون هذه النماءات واقعة تحت اليد جديداً بتبع بقاء العين ، فتكون غصباً
(الصفحة 131)
آخر غير مربوط بالغصب الأوّل ، مدفوعة بوضوح خلافها ; فإنّ تعدّد الغصب في مثله ممّا لا يقبله العقلاء والعرف أصلا .
وبالجملة لا فرق في أصل الحكم بالضمان المستفاد من المغيّى في الحديث الشريف ، وهو ضمان العين وثبوتها على العهدة بجميع الخصوصيات ، بين الفروض المختلفة والحالات المتعددة : من التلف وغيره ، والمثلى وغيره ، وإنّما الاختلاف بينها يرجع إلى الغاية الرافعة للضمان ، ومقتضى ما ذكر في القيمي ردّ قيمته يوم الردّ والدفع ، فتدبّر جيّداً .
ثمّ إنّ في دلالة القاعدة احتمالا ثالثاً اختاره سيدنا المحقّق الاُستاذ البروجردي (قدس سره) على ما في تقريراته في مباحث الغصب(1) ، فإنّه بعد أن ذكر أنّ مختاره في السابق كان ما عليه المحقّق الخراساني(2) (قدس سره) ممّا يرجع إلى لزوم قيمة يوم الأداء والدفع ، وقد رجع عنه بعداً ، ذكر أنّ القيمة التي يقال لها بالفارسيّة : «أرزش» لا تعتبر للمعدوم الصّرف ، فالعين الشخصية الخارجيّة وإن كانت في زمن بقائها تعتبر لها في كلّ يوم قيمة ، ولكنّها إذا تلفت لا تعتبر لها عند العقلاء قيمة ، بأن يقولوا : إنّ هذه العين في هذا اليوم تساوي كذا وكذا ; لانتفاء الهذيّة والشخصيّة ، فكيف تعتبر لها قيمة؟
نعم ، تعتبر عند العقلاء لمثلها قيمة ، ولكن أين هذا من قيمة شخص العين التالفة التي جعلت من المراتب النازلة لنفس العين ، فالعين لمّا لم يكن لها قيمة بعد تلفها ، كان الواجب على الضامن أداؤها بقيمتها حينما تعتبر لها قيمة ; وهو حال الوجود ، فزمان الانتقال إلى القيمة وإن كان هو يوم التأدية ، لكنّ العين لمّا لم تكن لها قيمة إلاّ حال الوجود ، فاللازم قيمة ذلك الحال ، ولكن لا دلالة للقاعدة حينئذ
- (1) اُنظر كتاب الغصب للبروجردي : 142 ـ 143 .
(2) حاشية المكاسب للمحقّق الخراساني : 37 .
(الصفحة 132)
على أنّ الاعتبار بخصوص يوم التلف ، أو يوم الغصب ، أو أعلى القيم منه إليه .
ويرد عليه ما عرفت سابقاً(1): من أنّ المستفاد من الحكم بالضمان في قاعدة الإتلاف ـ التي مرجعها إلى كون الضمان مترتّباً على الإتلاف ، وأنّ الإتلاف سبب للضمان ومتقدّم عليه ولو رتبة ـ أنّه لا يعتبر في الحكم بالضمان مطلقاً بدواً واستمراراً وجود العين وعدم عروض التلف لها ، فالعين وإن كانت تالفة تكون معروضة لوصف المضمونيّة ومتعلّقه للضمان ، وحينئذ نقول : إنّ لازم اعتبار قيمتها حال الوجود لعدم اعتبار القيمة حال التلف أن يكون اللازم القيمة في حال عدم تحقّق الضمان ; وهو حال الوجود ، فيصير مثل ما إذا قيل في الغصب باعتبار قيمة قبل الغصب ، مع أنّه لم يقل به أحد ولا يحتمله القاعدة بوجه .
والحقّ أنّ القيمة اللازمة هي قيمة العين التي اعتبر وجودها في عالم التشريع وثبوتها وبقاؤها على العهدة ، وقد عرفت(2) أنّ مقتضى القاعدتين ـ قاعدة الإتلاف وقاعدة التلف التي هي المبحوث عنها في المقام ـ بقاء نفس العين على العهدة وثبوتها على اليد ، وأنّ الانتقال إلى القيمة إنّما هو في مرحلة الأداء الذي له مراتب متعدّدة ودرجات مختلفة ، واللازم حينئذ أن يؤدّي قيمة يوم الأداء ; لأنّه يوم الانتقال إلى القيمة والبدل ، والذي تضاف إليه القيمة هي نفس العين الثابتة على العهدة وإن كانت غير موجودة في الخارج ، فالإنصاف أنّه لا مجال للرجوع عمّا أفاده المحقّق الخراساني (قدس سره) واختاره جملة من أجلاّء تلامذته من كون اللازم بمقتضى القاعدة هي قيمة يوم الأداء والدّفع .
ثم إنّه ورد في هذا المجال رواية صحيحة في باب الغصب ـ الذي هو أظهر مصاديق القاعدة المبحوث عنها في المقام ـ لابدّ من ملاحظتها ، وأنّه هل يستفاد
- (1، 2) في ص 49، 129 ـ 130 .
(الصفحة 133)
منها غير ما تفيده القاعدة من القيمة يوم الأداء على ما استظهرنا منها أم لا؟ وأنّه على التقدير الأوّل كيف يجمع بينهما؟
فنقول : هي صحيحة أبي ولاّد قال : اكتريت بغلا إلى قصر ابن هبيرة ذاهباً وجائياً بكذا وكذا ، وخرجت في طلب غريم لي ، فلمّا صرت قرب قنطرة الكوفة خبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى النيل ، فتوجّهت نحو النيل ، فلمّا أتيت النّيل خبّرت أنّه توجّه إلى بغداد ، فاتبعته فظفرت به وفرغت فيما بيني وبينه ورجعت إلى الكوفة ، وكان ذهابي ومجيئي خمسة عشر يوماً ، فأخبرت صاحب البغل بعذري ، وأردت أن أتحلّل منه فيما صنعت وأرضيه ، فبذلت له خمسة عشر درهماً فأبى أن يقبل ، فتراضينا بأبي حنيفة وأخبرته بالقصّة وأخبره الرجل ، فقال لي : ما صنعت لبغل؟ فقلت : قد رجّعته سليماً ، قال : نعم ، بعد خمسة عشر يوماً ، قال فما تريد من الرجل؟ قال : أريد كراء بغلي ، فقد حبسه عليّ خمسة عشر يوماً ، فقال : إنّي ما أرى لك حقّاً ; لأنّه اكتراه إلى قصر بني هبيرة ، فخالف فركبه إلى النيل وإلى بغداد فضمن قيمة البغل وسقط الكراء ، فلمّا ردّ البغل سليماً وقبضته لم يلزمه الكراء .
قال فخرجنا من عنده وجعل صاحب البغل يسترجع ، فرحمته ممّا أفتى به أبو حنيفة وأعطيته شيئاً وتحلّلت منه ، وحججت تلك السّنة فأخبرت أبا عبد الله (عليه السلام) بما أفتى به أبو حنيفة ، فقال : في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السّماء ماءها وتمنع الأرض بركتها .
قال : فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام) فما ترى أنت؟ فقال : أرى له عليك مثل كراء البغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل ، ومثل كراء البغل من النيل إلى بغداد ، ومثل كراء البغل من بغداد إلى الكوفة وتوفّيه إيّاه .
قال : قلت : جعلت فداك قد علّفته بدراهم فلي عليه علفه؟ قال : لا ، لأنّك غاصب ، فقلت : أرأيت لو عطب البغل أو أنفق أليس كان يلزمني؟ قال : نعم ، قيمة
(الصفحة 134)
بغل يوم خالفته ، قلت : فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو عقر ، فقال : عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه عليه ، قلت : فمن يعرف ذلك؟ قال : أنت وهو ، إمّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك ، فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمك ذلك ، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا فيلزمك .
فقلت : إنّي أعطيته دراهم ورضي بها وحلّلني ، فقال : إنّما رضي فأحلّك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم ، ولكن ارجع إليه وأخبره بما أفتيتك به ، فإن جعلك في حلّ بعد معرفته فلا شيء عليك بعد ذلك(1) .
وتنكير البغل في قوله (عليه السلام) : «قيمة بغل يوم خالفته ، إنّما هو في نسخة الوسائل ، والمحكي عن بعض نسخ الكافي والتهذيب هو «البغل» معرّفاً ، وهو الظّاهر ، كما أنّ المحكيّ عن صاحب الجواهر أنّه قال : إنّ الموجود فيما حضرني من نسخة التهذيب الصحيحة المحشّاة «تردّه عليه» من دون لفظ «يوم»(2) .
وربّما يقال بدلالة الصحيحة على أ نّ المدار في القيمة هي قيمة يوم الغصب والأخذ والاستيلاء ، وذلك في موضعين منها :
أحدهما : قوله (عليه السلام) : «نعم قيمة بغل يوم خالفته» وقد أفاد الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في وجه دلالة هذه الفقرة على كون المدار هي القمية يوم الغصب وجهين :
الأوّل : إضافة القيمة المضافة إلى البغل إلى يوم خالفته ثانياً ، فيكون المضاف واحداً والمضاف إليه متعدّداً في عرض واحد ، ويصير المعنى قيمة بغل قيمة يوم
- (1) الكافي : 5 / 290 ح 6 ، تهذيب الأحكام : 7 / 215 ح 943 ، الاستبصار : 3 / 134 ح 483 ، وعنها وسائل الشيعة : 19 / 119 ، كتاب الإجارة ب 17 ح 1 و ج 25 / 390 ، كتاب الغصب ب 7 ح 1 .
(2) جواهر الكلام : 37 / 102 .