(الصفحة 157)
قرار ضمان التالف على من تلف عنده ، مع المساوات فيما هو سبب الضمان ، فهو أيضاً من آثار حدوث سبب ضمان ما كان في ضمان الآخر لواحد آخر ، وأحكامه عند العرف ، ويؤيّده الاعتبار ، ولم يردع عنه في الأخبار ، فلابدّ من الالتزام به شرعاً ، كما هو الحال في جلّ أحكام الضّمان ، حيث إنّه لا وجه له إلاّ الثبوت عرفاً ، وعدم الردع عنه شرعاً ، وكشف ذلك عن إمضاء الشارع فيما إذا اُطلق دليل الضمان ، فتدبّر جيّداً»(1) .
وعبارته وإن كانت ظاهرة في الطولية ، إلاّ أنّ هذه الطولية غير الطوليّة المتقدّمة التي منعناها ، فإنّ هذه الطولية مرجعها إلى السبق واللحوق فقط ، لا إلى كون المضمونيّة للأوّل داخلة في دائرة ضمان الثاني ، كما لا يخفى .
ومنها : ما أفاده سيّدنا العلاّمة الاُستاذ البروجردي (قدس سره) في مباحث كتاب الغصب على ما قرّره بعض الأعاظم من تلامذته ; فإنّه بعد أن ذكر أنّ مفاد «على اليد» الضمان والتعهّد الذي يعبّر عنه بالفارسيّة بـ «عهده دارى» وليس مفاده اشتغال الذمّة بشيء ; فإنّ الضمان اعتبار من اعتبارات العقلاء يعتبرونه للعين حتى في حال وجودها ، قال :
يمكن أن يكون الوجه في المسألة ـ أي مسألة جواز رجوع السابق إلى اللاّحق ـ أنّ السابق وإن حكم عليه بالضمان من جهة صدور الغصب منه ، ولكن كان متمكّناً حين وجود العين من الخروج عن العهدة بأداء العين إلى مالكه ، من دون أن يصير متضرّراً بسبب ذلك ، وبعد أن أخذها منه اليد اللاّحقة لزمه المثل أو القيمة ، فصارت هي الباعثة لتضرّره ، فيستحق بذلك الرجوع عليها .
وبعبارة اُخرى : العين المغصوبة وإن لم تكن ملكاً لليد السّابقة ، ولكنّها كانت بحيث يستحقّ أن يستخلص من الضمان بسبب أدائها ، فكأنّ العين كانت متعلّقة
- (1) حاشية المكاسب للمحقق الخراساني : 83 .
(الصفحة 158)
لحقّ السابق ، وحديث «على اليد . . .» كما يدلّ على ضمان العين ، كذلك يدلّ على ضمانها لمن كان هذه متعلّقة لحقّه ، نظير العين المرهونة إذا غصبها غاصب ، فإنّه يضمن للراهن نفس العين وللمرتهن متعلّق حقّه .
وبالجملة : فلو كانت العقلاء يحكمون باستحقاق السابق للرجوع إلى اللاّحق ، فلعلّه كانت من جهة أنّهم يرون للسابق حقّاً متعلقاً بالعين ، وهو عبارة عن استحقاقه لأن يخرج نفسه من الضمان بسبب هذه العين ، من دون أن يرد عليه ضرر ، والضرر المتوجّه عليه من المثل أو القيمة إنّما هو من جهة غصب اللاّحق ، فيرجع عليه بذلك . قال : ولعلّ هذا مراد الشيخ (قدس سره) من عبارته المتقدّمة أيضاً ذلك(1) .
ويرد عليه أوّلا : عدم جريانه في جميع فروض المسألة ; لأنّ من جملتها ما إذا كان وقوع العين في يد اللاّحق بأذن من السّابق ، مع الإعلام بكونه غصباً مأخوذاً عدواناً وعلى سبيل غير مشروع ; فإنّه لا يكون الضرر المتوجّه عليه في هذه الصّورة إلاّ من قبل نفسه ; لأنّ وقوعه في يد اللاّحق كان بإذن منه .
وثانياً : عدم كون الغصب موجباً لتعلّق حق الغاصب بالعين المغصوبة ، وكون أدائها الواجب موجباً لسقوط ضمانه لا يستلزم تعلّق حقّ بها أصلا ، والتنظير بالعين المرهونة إذا غصبها غاصب في غير محلّه .
ومنها : ما أفاده بعض الأعلام على ما في تقريراته في البيع ; من أنّ الغاصب الأوّل يملك بأدائه التالف المعدوم كملك المعدوم في باب الخيارات ، فكما أنّ في موارد الإتلاف إذا غصب مثلا أحد مال الغير فأتلفه لا شبهة أنّ للمالك أن يرجع إلى المتلف إذا أراد ويأخذ منه بدل ماله ، وما بقي من ماله من الرضاض والكسور فهو للضامن ، وليس للمالك أن يدّعي كون الرضاض له ، وإلاّ يلزم الجمع بين
- (1) اُنظر كتاب الغصب للمحقّق البروجردي : 151 ـ 154 .
(الصفحة 159)
العوض ، والمعوّض ، كما أ نّه لو كان للأجنبي فهو خلاف البداهة ، فيكون للضامن ، فكذلك في المقام يكون التالف للغاصب الأوّل بالمعاوضة القهرية ، ونتيجتها جواز الرجوع ببدله إلى من تلف في يده .
نعم ، قد يكون اعتبار الملكية لغواً ، كما إذا كان الغاصب واحداً فتلف عنده المال فأخذ المالك منه ، فاعتبار ملكية التالف هنا لغو ، وليس التلف بمجرّده مانعاً عن اعتبار الملكية في المقام ; لما عرفت نظيره في باب الخيارات ، وبالجملة : رجوع السابق إلى اللاّحق ، إنّما هو مقتضى السّيرة العقلائية القطعيّة كما هو واضح(1) .
وأنت خبير بأنّه إن كان مراده الإتكاء على نفس السيرة العقلائية فهو يرجع إلى كلام المحقّق الخراساني (قدس سره) ; من كون رجوع السابق إلى اللاّحق من الآثار العقلائية للضمان ، والأحكام العرفية الثابتة له(2) . وإن كان مراده توجيه السّيرة وبيان الوجه لها كما هو ظاهر صدر العبارة ، فيمكن المناقشة في ذلك بعدم كون اعتبار المعدوم ملكاً ممّا يساعده العقلاء مطلقاً ، والمراد بملك المعدوم في باب الخيار إن كان هو : أنّ التلف في زمن الخيار ممّن لا خيار له ، فلا مجال له ; لما قد اشتهر في وجهه من أنّه تنفسخ المعاملة آنّاً ما قبل التلف وتدخل العين في ملك من لا خيار له ، ثمّ يقع التلف في ملكه لوجود الدليل عليه .
وإن كان المراد هو التلف في يد من ليس له الخيار ، كما إذا كان تلف المبيع في يد المشتري في زمن خيار البائع ، فإنّه بعد ما فسخ البائع ينتقل المبيع التالف إلى ملكه بمقتضى الفسخ ، فيرجع إلى بدله من المثل أو القيمة لتعذّر ردّ عينه ، فالأمر وإن كان كذلك من جهة الرجوع إلى البدل ، إلاّ أنّه لم يعلم كون وجهه اعتبار التالف ملكاً للبائع الفاسخ ، بل من أحكام الفسخ عند العقلاء والشارع أنّه إذا كان الفسخ مع
- (1) مصباح الفقاهة : 4 / 383 ـ 384 .
(2) حاشية المكاسب للمحقق الخراساني : 83 .
(الصفحة 160)
بقاء العين تنتقل العين إلى الفاسخ ، وإذا كان مع تلفه ينتقل بدله إليه ، فتدبّر جيّداً .
ومنها : ما اختاره المحقّق العراقي (قدس سره) في رسالة عثرت عليها بعد نقل الوجوه المتقدّمة ; وهي رسالة في تعاقب الأيدي ، وقد ألّفها في أواخر عمره الشريف ; وهي مطبوعة في ذيل شرحه لكتاب القضاء لشيخه اُستاذ الكلّ المحقّق الخراساني (قدس سره) وملخّصه :
أنّ الظاهر من العامّ أنّ ما على اليد عين ما أخذت لا إضافته بالجملة ، فلا قصور في اعتبار تعدّد وجود ما أخذت حسب تعدّد الأيدي بلحاظ تعدّد الأبدال القائمة عليها ، وبملاحظة أنّ وجود البدل نحو وجود للمبدل ، وهذه الجهة هي مصحّح العنايتين في وجودات العين على حسب تعدّد الأيدي .
وعليه : فمرجع «على اليد» في اليد الأولى إلى كون ما هو تحت يده واستيلائه باخذه على يده ، فكأنّه قال : إنّ ما هو تحت يده على يده ، ولازمه اعتبار وجود آخر لما تحت يده بجعله فوقها ، ولازمه اعمال عناية في اعتبار العين فوق اليد وعليها .
وحينئذ يبقى الكلام في أنّ محلّ إعمال العناية تارة نفس وجود العين ، ويقال : إنّ الوجود بالعناية على اليد حقيقة بمعنى إبقاء مدلول «على» والاستعلاء على حقيقته بلا تصرّف فيه ، و اُخرى محلّ إعمال العناية هو مدلول «على» ، وأنّ الوجود الحقيقي للعين الذي هو تحت اليد كان على اليد بلا تصرّف في وجود العين أبداً ، ويترتّب على كلّ واحد من العنايتين نتائج متعدّدة .
منها : أنّه على العناية الاُولى كان الوجود الاعتباري للعين قبل أداء الضامن إيّاه ملك الضامن حقيقة ; إذ هو حينئذ عين بدله الذي هو قبل أدائه ملك الضامن ، غاية الأمر عناية كونه عين ما أخذت موجب لاستحقاق مطالبة المالك أيّاه ، وهذا بخلاف العناية الثانية ; إذ وجود العين بالحقيقة في أيّ مكان كان هو ملك المالك ،
(الصفحة 161)
فرجوع المالك إلى الضامن من جهة سلطنته على أخذ ماله ، غاية الأمر حيث لايتمكّن الضامن لا يجب عليه إلاّ بدله . وحينئذ فما على اليد ليس ملك الضامن ، وأنّ ما هو ملكه هو البدل المسقط للعين .
ومن تبعات هذه الجهة من الفرق بين العنايتين تتولّد نتيجة اُخرى ; وهي أنّ بمقتضى العناية الاُولى يصدق أنّ اليد اللاّحقة واردة على وجودي العين اللذين هما في اليد وعلى اليد ، ففي الحقيقة استيلاء الثاني على العين استيلاء على وجود العين لجميع أنحائه وشؤونه ، فكأنّ اليد الثانية بمنزلة كأس آخر قائم على الكأس الأوّل الحاوي للعين بشؤونها ، ولازمه إحداث ما أخذت عيناً اعتبارياً على يد الثاني للمالك ، وعيناً اعتبارية اُخرى على اليد الثانية للضامن .
وبهذه الملاحظة يقال : إنّ اليد الثانية أيضاً مشغولة بمال الضامن ، غاية الأمر ليس للضامن السابق مطالبة اللاّحق إلاّ في ظرف أدائه ما عليه من البدل ; لأنّ أداءه موجب لتلف ماله ، فله الرجوع إلى اللاحقة حينئذ ، انتهى(1) .
وأنت خبير بأنّ كلامه هذا تقريب آخر للطوليّة ; وهي مخالفة لظاهر «على اليد ما أخذت . . .» الذي نسبته إلى الأيادي على حدّ سواء ، كما عرفت(2). وأحسن الوجوه المتقدّمة ما أشار إليه المحقّق الخراساني (قدس سره) من كون ذلك ـ أي رجوع السابق إلى اللاّحق بعد الأداء ـ من الأحكام العقلائية في موارد ثبوت الضمان ، ولم يردع عنه الشارع ، واللازم حمل الإطلاق عليه ، وهذا المقدار يكفي في الحكم بالجواز ، والبحث عن وجهه ليس بلازم كما لا يخفى .
الأمر الثالث : لو كانت العين المغصوبة متعلّقة لحقّ الغير ، كما إذا كانت مرهونة عند المرتهن ، وصارت مغصوبة في هذا الحال ، فهل مقتضى حديث «على اليد . . .»
- (1) رسالة في تعاقب الأيدي ، المطبوع في آخر شرح كتاب القضاء : 222 ـ 224 .
(2) في ص 146 ـ 147 .