(الصفحة 176)
إنّما نوى الفراق بعينه(1) ، وفي رواية عبد الله بن طاووس يقول الإمام الرضا (عليه السلام) مثل ذلك(2) . وفي رواية هيثم بن أبي مسروق قال (عليه السلام) : أما إنّه مقيم على حرام(3) .
وهكذا الحال في رواية عبد الرحمن البصري يقول الإمام أبو عبدالله (عليه السلام) : تتزوّج هذه المرأة ، لا تترك بغير زوج(4) ; فإنّ التعبير بالاختلاع لا يناسب بقاء تلك المرأة على زوجيّتها وأنّ الطّلاق غير واقع ، وكلّ ما في البين هو إباحة التزوّج بها ، وهكذا قوله (عليه السلام) : «فإنّه إنّما نوى الفراق» الظاهر في أنّ حصول الفراق مستند إلى نيّته وقصده ، وكذا قوله (عليه السلام) : «لا تترك بغير زوج» ; فإنّ مفاده أنّ عدم جواز التزوّج بهامستلزم لأن تترك بلازوج ،وهذالايلائم البقاءعلى الزوجية الاُولى بوجه .
وأصرح من الجميع قوله (عليه السلام) : «أما إنّه مقيم على حرام» ; فإنّه مع فرض عدم حصول البينونة والفراق بمجرّد الطلاق ، كيف يكون مقيماً على حرام؟ وحمل الحرمة على حرمة التجرّي ـ الصادر منه باعتقاد كونها مطلّقة ـ في غاية البعد . ويؤيّد ما ذكر دعوى ابن إدريس الإجماع عليه ، حيث قال : قد روى أصحابنا روايات متظاهرة بينهم متناصرة ، وأجمعوا عليها قولا وعملا ، أنّه إن كان المطلّق مخالفاً وكان ممّن يعتقد وقوع الطلاق الثلاث لزمه ذلك ، ووقعت الفرقة به ، وإنّما لا تقع الفرقة إذا كان الرجل معتقداً للحقّ(5) .
كما أنّه ربما يقال كما قاله المحقّق البجنوردي (قدس سره) بالثاني ، حيث قال : إنّ أمرهم (عليهم السلام) بتزويجهم ، أو أخذ المال في مورد التعصيب ، أو المعاملات الفاسدة والضمانات غير الصحيحة ـ مع أنّ لهم الولاية العامّة ـ يدلّ على أنّهم (عليهم السلام) جعلوا نفس العقد عليهنّ طلاقاً لهنّ ، وتزويجاً للزوج الثاني ، قال : وبناءً على ما ذكرنا
- (1) تقدم في ص 168 .
(2 ـ 4) تقدّمت في ص 169 .
(5) السرائر : 2 / 685 .
(الصفحة 177)
يكون العقدواقعاًعلى امرأة خلية ;لأنّ زمان حصول زوجيتها للثاني ، مع زمان عدم زوجيّتهاللأوّل واحد ; لأنّهما معلولان لعلّة واحدة ; وهو العقد الواقع عليها(1) .
والتعبير بأنّ لهم الولاية العامة يفيد كون ذلك من باب الولاية ، مع أنّ ظاهر الروايات المتقدمة خلافه ، وأنّ ذلك من قبيل سائر الأحكام المبيّنة في كلامهم (عليهم السلام) ، كما أنّ ظاهرها هو القول الأوّل الذي مرجعه إلى حصول الفراق بمجرّد الطلاق ، والتعبير بالإلزام يناسب هذا المعنى ; فإنّ ما ألزموه أنفسهم حصول البينونة بمجرّد الطلاق ، لا بعد تحقق العقد عليها ثانياً ، واللازم إلزامهم بهذا الأمر ، كما أنّ لازم إلزامهم بذلك اُمور اُخر :
مثل عدم جواز الاستمتاع بها ، وعدم جواز إجبارها على مراعاة أحكام الزوجية ، وغير ذلك .
وبالجملة : ملاحظة الروايات تقتضي الحكم بوقوع الطلاق وصحّته بمجرّده وحصول البينونة ، ولا مانع منه بعد كون دائرته محدودة بحدود المخالف ، ففي الحقيقة تكون هذه الروايات حاكمة على الأدلّة الأولّية الحاكمة ببطلان طلاق الثلاث في مجلسواحد ،ومفيدة لاختصاص تلك الأدلّة بالطلاق الصادر من الموافق .
وأمّا ما يقال في مقام إبطال الحكومة المزبورة : من أنّها مخالفة للضرورة في مذهب الشيعة ; حيث إنّ الفقهاء كلّهم متفقون على بطلان هذا الطلاق(2) ، ولم يقل أحد منهم بصحّته ولو بالعنوان الثانوي ; أي بعنوان أنّه الطلاق الصادر عن المخالفين ، وأيضاً مخالف للأخبار الصريحة في أنّه إيّاكم وتزويج المطلّقات ثلاثاً في مجلس واحد ; فإنّهنّ ذوات أزواج(3) ، ولاستنكارهم (عليهم السلام) لصحّة مثل هذا الطلاق ،
- (1) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي : 3 / 193 .
(2) الانتصار : 308 ، الشرائع : 3 / 23 ، جواهر الكلام : 32 / 116 .
(3) الكافي : 5 / 424 ح 4 ، الفقيه : 3 / 257 ح 1218 ، تهذيب الأحكام : 7 / 470 ح 1883 و ج 8 / 56 ح 183 ، الاستبصار 3 / 289 ح 1022 ، وعنها وسائل الشيعة : 20 / 495 ، كتاب النكاح ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ب 35 ح 1 و ج 22 / 68 ، كتاب الطلاق ، أبواب مقدّماته وشرائطه ب 29 ح 20 .
وفي البحار : 104 / 5 ح 18 ومستدرك الوسائل : 15 / 300 ، كتاب الطلاق ، أبواب مقدّماته وشرائطه ب 22 ح 18314 عن نوادر ابن عيسى : 107 ح 261 .
(الصفحة 178)
واستدلالهم على بطلانه بالكتاب العزيز .
فيمكن الجواب عنه ، بأنّ اتفاق الفقهاء على البطلان إنّما هو بلحاظ الحكم الأوّلي ، كاتفاقهم على حرمة شرب الخمر مع صيرورته حلالا في حال الاضطرار ، والأخبار ناظرة إلى المنع عن تزويجهنّ في نفسه ; لأنّ الحكم الواقعي الأوّلي هو البطلان ، والصحة إنّما تكون ثابتة بالعنوان الثانوي اُنظر إلى ما ورد في رواية محمّد ابن عبدالله العلوي المتقدمة(1) «قال :سألت أباالحسن الرضا (عليه السلام) عن تزويج المطلّقات ثلاثاً؟ فقال : إنّ طلاقكم لا يحلّ لغيركم ، وطلاقهم يحلّ لكم» ، فإنّها ظاهرة في التفصيل في طلاق الثلاث بين الصادر من الموافق ، وبين الصادر من المخالف بأنّ الأوّل لا يكون محلّلا بخلاف الثاني ، وأصرح منه روايتا عبد الله بن طاووس ومكاتبة إبراهيم بن محمد الهمداني المتقدمتان(2) الدالتان على التفصيل كذلك .
نعم ، روى في دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنّ رجلا من أصحابه سأله عن رجل من العامّة طلّق امرأته لغير عدّة ، وذكر أنّه رغب في تزويجها ، قال (عليه السلام) : انظر إذا رأيته فقل له : طلّقت فلانة ، إذا علمت أنّها طاهرة في طهر لم يمسّها فيه؟ فإذا قال : نعم ، فقد صارت تطليقة ، فدعها حتى تنقضي عدّتها من ذلك الوقت ، ثمّ تزوّجها إن شئت ; فقد بانت منه بتطليقه بائنة ، وليكن معك رجلان حين تسأله ; ليكون الطلاق بشاهدين عدلين(3) .
- (1 ، 2) في ص 158 ـ 159 .
(3) دعائم الإسلام : 2 / 263 ح 1002 ، وعنه مستدرك الوسائل : 15 / 304 ، كتاب الطلاق ، أبواب مقدّماته وشرائطه ب 23 ح 1 .
(الصفحة 179)
والظاهر أنّ المراد من الطلاق لغير عدّة هو طلاق الثلاث ، باعتبار عدم جواز الرجوع في عدّتها . هذا ، ولكنّ الالتزام بالرواية يهدم أساس قاعدة الإلزام ، وينافي الروايات المتقدّمة الظاهرة في جواز التزوج بها من دون افتقار إلى ما في الرواية من السؤال عن الزوج وجوابه الخاصّ وغيرهما ، فالإنصاف أنّ التأمّل في المقام يقضي بوقوع الطلاق المذكور صحيحاً بالنسبة إلى المخالف .
هذا ، مضافاً إلى غرابة حصول الزوجية والبينونة بسبب العقد في زمان واحد ، خصوصاً مع ظهور أدلّة شرطية خلوّ المرأة عن الزوج في صحة العقد عليها في كونها خالية عنه حين العقد ، بحيث يكون العقد واقعاً على المرأة الخالية .
ودعوى كون المقام من قبيل وطء ذي الخيار للأمة التي باعها وكان الخيار للبائع ، فيتحقق الفسخ بنفس الوطء ، فيكون الوطء علّة لحصول الملكية ; أي رجوع ملكية الأمة إلى البائع ، العلّة والمعلول متحدان زماناً ، والتقدّم والتأخر بينهما رتبيّ فقط ، فيكون الوطء والملكية في زمان واحد .
مدفوعة بأنّه بعد قيام الدليل على كون الوطء فسخاً ; لعدم كونه بنفسه كذلك ، لابدّ من توجيهه بحصول الفسخ آناً ما قبل الوطء ، ولازمه تحقق الملكية قبله ، ووقوع الوطء في ملك ، ولا يكفى في جوازه مجرّد الإتّحاد الزماني ، وإلاّ يلزم جواز وطء الأمة في حال وقوع عقد البيع عليها ، لاتحاد العلّة والمعلول زماناً ، مع أنّه لا مجال للالتزام به ، فتدبّر .
ثمّ إنّه يتفرّع على القولين وتظهر ثمرتهما فيما لو استبصر المخالف بعد أن طلّق زوجته بالطلاق الفاقد لشرائط صحة الطلاق عندنا ، ولم يعقد عليها غيره ممّن يجوز له العقد عليها ، فعلى قول من يقول بحصول الفراق بالعقد الثاني ، للزوج المطلّق أن يرجع إلى زوجته المطلّقة بدون الاحتياج إلى عقد جديد ; لأنّها زوجته ، ولم يتحقق البينونة على ما هو المفروض ، وعلى قولنا الذي مرجعه إلى حصول الطلاق وتحقق
(الصفحة 180)
الفراغ بمجرّد طلاقه ، لا يجوز له أن يرجع إليها بدون عقد جديد ، بل لابدّ من التزوّج بها بعقد جديد ، كما إذا أراد موافق التزوّج بها .
نعم ، يمكن أن يقال : إنّه بناءً على هذا القول أيضاً يجوز له الرجوع إليها بعقد جديد ، نظراً إلى أنّ تنزيل هذا الطلاق الفاسد منزلة الطلاق الصحيح فيما إذا كان مخالفاً مادام أنّه معتقد بصحّته ، فإذا زال هذا العنوان عنه بواسطة استبصاره يزول بزواله حكمه أيضاً ; لأنّ ظاهر أخذ كلّ عنوان في موضوع حكم أنّ لذلك العنوان دخلا في ثبوت الحكم حدوثاً وبقاءً لا حدوثاً فقط .
ولكنّ الظاهر خلافه ; لأنّ المستفاد من الروايات سيّما بعضها أنّ الطلاق الصادر ممّن لا يتولاّنا(1) ، أو ممّن كان مستخفّاً بالطلاق(2) طلاق صحيح ، ويلزم عليه بذلك ، وقد وقع في بعضها التعليل بأنّه إنّما عنى أو نوى الفراق ، ومن الواضح ظهور التعليل في أنّ نيّة الفراق مع اعتقاد الصحة تكفي في اتّصافه بالصّحة ، وعليه : فيكون مجرّد صدوره كذلك كافياً في إلزامه به ، فلا يكون استبصاره بعد ذلك مؤثِّراً في دفع ذلك الحكم عنه .
مع أنّ هذا النوع من الأحكام كالطلاق والبينونة والعتق لا يقبل التقييد بـ «مادام القيد الفلاني موجوداً» ، بل يكون صدوره موجباً لدوامه ، فكما لا يصحّ التعبير في مقام العتق بقوله : «أنت حرّ مادمت عادلا» مثلا ، فكذلك لا يصح تقييد صحة الطلاق بـ «مادام كونه باقياً على المخالفة وعدم الاستبصار» .
مع أنّ لازمه التقييد بما إذا لم يترتّب على طلاقه أثر ، أمّا لو ترتب عليه أثر ، كما لو تزوجها موافق بعد انقضاء عدّتها ، فاستبصر الزوج المطلّق بعد التزويج بالثاني ، فلا مجال لرجوعها إليه ، ومن البعيد تحميل هذا التقييد على الروايات بناءً على ما ذكر . ودعوى أنّه لا يبقى مورد للرجوع ; لأنّ العقد بمنزلة الطلاق ويوجب
- (1 ، 2) مثل مكاتبة الهمداني ورواية عبد الأعلى المتقدّمتين في ص 158 .