(الصفحة 402)
الانتقال منه إليه أو إلى الغير .
وقبل توضيح أحكام الصّور الأربع نمهّد مقدّمة ، وهي : أنّه لا إشكال نصّاً(1)وفتوى(2) في أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر أو المدّعى عليه ، حسب اختلاف تعبير الروايات الواردة في هذا المجال ، والظاهر أنّ تشخيص المدّعي والمنكر إنّما يكون بيد العرف ; لأنّهما من الموضوعات الخارجية التي لابدّ في تشخيصها من الرجوع إلى العرف ، كتشخيص عناوين الدم والكلب والخنزير وغيرها من العناوين الموضوعة للأحكام .
فتحديدهما بأنّ المدّعي هو الذي لو ترك تركت الخصومة بخلاف المنكر ، أو بأنّ المدّعي هو الذي كان قوله مخالفاً لحجّة شرعية من أصل أو ظاهر بخلاف المنكر ، فإنّه الذي تؤيّده حجّة شرعية ، إن كان المراد هو التحديد العرفي وبيان معناهما عند العقلاء ، فلا بأس به ، ولكن لو فرض حينئذ حكم العرف في مورد بانطباق عنوان المدّعي على فلان مثلا ، فاللازم ترتيب الأثر عليه ولو لم ينطبق عليه شيء من الحدّين .
وإن كان المراد به هو بيان معناهما عند الشارع ، فيرد عليه : أنّه لم يرد في آية ولا رواية التحديد بشيء منهما ، بل ليس لبيانه ارتباط بالشارع ; لأنّهما كما عرفت من الموضوعات التي لابدّ من الرجوع في تشخيصها إلى العرف ، فاللازم الإحالة إليه ولو لم يساعد على شيء من الحدّين .
إذا عرفت ذلك فاعلم ، أنّه في الصورة الاُولى : التي يدّعي فيها ذو اليد انتقال المال من المدّعي إليه من دون واسطة ، ينقلب الإنكار من ذي اليد إلى الإدّعاء ، ويصير المدّعي منكراً والمنكر مدّعياً لو كان الملاك في تشخيص ذلك هو مصبّ
- (1) وسائل الشيعة: 27 / 233، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 3 و ص 293 ب 25 ح3.
(2) جواهر الكلام : 40 / 170 ـ 171 ، ملحقات العروة الوثقى : 6 / 497 ـ 498 .
(الصفحة 403)
الدعوى لا النتيجة كما هو الظاهر ، فإنّه بحسب النتيجة وإن لم يتحقّق انقلاب أصلا ، ضرورة أنّه بملاحظة ذلك يكون ذو اليد منكراً والطرف مدّعياً ، وأمّا بحسب مصبّ الدّعوى ومورد النزاع فالأمر ينقلب ; لأنّ ذا اليد يدّعي الانتقال والمدّعي ينكره ، فيحلف لو لم يكن لذي اليد بيّنة ، وهذا ممّا لا ريب فيه ظاهراً .
وأمّا الصورة الثانية : فالظاهر عدم تحقّق الانقلاب فيها أصلا ; لأنّ إدّعاء الانتقال من المدّعي إلى ثالث ليس موضوعاً لحكم الحاكم بعد عدم ترتّب الأثر عليه أصلا ، فإنّ انتقال المال من المدّعي إلى ثالث وعدمه ليس له ارتباط بذي اليد ، وليس إدّعاؤه منه موجباً لإقامة البيّنة عليه أو الحلف من الآخر مع عدمها ، كما هو المحقّق في محلّه .
كما أنّ إدّعاء انتقال المال من الثالث إليه ليس مرتبطاً بالمدّعى ، فلا أثر لحلفه على نفيه ، ولا لإقامة ذي اليد البيّنة على ثبوته ، فبعد عدم ترتّب الأثر على شيء من الدّعويين لابدّ من ملاحظة النتيجة ، وبحسبها يكون ذو اليد منكراً والآخر مدّعياً ، كما هو المفروض ، ومنه يظهر حكم الصورة الثالثة ، كما لا يخفى .
وأمّا الصورة الرّابعة : فانقلاب الإنكار فيها ادّعاء ـ بعد عدم صدور إدّعاء من ذي اليد بالنسبة إلى الانتقال من المدّعي إليه ، أو إلى الغير ـ مبنيّ على أن تكون اللوازم العرفية للكلام حجّة موجبة لتشخيص المدّعي من المنكر ، فإنّه حينئذ يصير مدّعياً ; لأنّ لازم الإقرار بثبوت الملكية للمدّعي سابقاً مع دعواه ملكية نفسه فعلا ، هو انتقاله منه إليه مع الواسطة أو بدونها ، فإن قلنا باعتبار هذا اللازم العرفي ، فاللازم تحقّق الانقلاب ، وإلاّ فالعدم .
تذنيب
ربما يتوهّم المنافاة بين ما ذكرنا من انقلاب الدعوى إلى الإقرار في الصّورة
(الصفحة 404)
الاُولى ، وبين ما ورد في محاجّة أمير المؤمنين (عليه السلام) مع أبي بكر في قضيّة فدك ، وقد تقدّم(1) في ضمن الروايات الدالّة على اعتبار اليد، الرواية الدالّة على هذه المحاجّة ، ورواها في الاحتجاج مرسلة .
بيان توهّم المنافاة ، أنّ الصّديقة (عليها السلام) قد اعترفت بأنّ فدكاً كانت ملكاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وادّعت أنّـها نحلة ، فلو كان الإقرار بانتقالها موجباً لانقلاب الدّعوى وصيرورة ذي اليد مدّعياً ، لكان مطالبة أبي بكر البيّنة منها (عليها السلام) في محلّها ، ولم يتوجّه عليه اعتراض أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد البناء على أنّ ما تركه النبي (صلى الله عليه وآله) لم ينتقل إلى وارثه ، بل يكون صدقة للمسلمين على ما رووه عنه (صلى الله عليه وآله) (2)(3) .
بيان الدّفع على ما أفاده بعض المحقّقين في تعليقته على الرسائل(4) ، وتبعه المحقّق اليزدي (قدس سره) في كتاب «الدّرر» ، هو أنّ الانقلاب وصيرورة المنكر مدّعياً إنّـما هو فيما إذا كان في مقابل المدّعي منكر حتى يتوجّه عليه اليمين مع عدم إقامة البيّنة . وأمّا إذا كان هنا مدّع مع عدم منكر في مقابله ، كما إذا قال الخصم : لا أدري صدق ما تقول أو كذبه ولا أعلم بالحال ، فإن كانت البيّنة للمدّعي على طبق ما يقول يؤخذ بها ، وإلاّ فلا مانع من الأخذ بسائر القواعد الموجودة ، من قبيل الاستصحاب أو اليد ، فلو كانت العين في يد المدّعي ، ويدّعي انتقالها من الميّت في حال حياته إليه ، ولا ينكر ذلك الورثة جزماً ، يحكم بكونها ملكاً لذي اليد ; إذ لا
- (1) في ص 380 ـ 381، وقد ذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : 16 / 209 ما ورد من السير والأخبار في أمر فدك ، وأنّه هل النبي (صلى الله عليه وآله) يورث أم لا؟ وأنّ فدك هل صحّ كونها نحلة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لفاطمة (عليه السلام) أم لا؟ مفصّلا
(2) مسند أحمد : 1 / 25 ح 25 ، صحيح البخاري : 4 / 52 ح 3093 و ج 5 / 30 ح 4036 ، صحيح مسلم : 3 / 1105 ـ 1109 باب حكم الفئ ح 49 ، 51 ، 52 ، 54 و 56 ، سنن أبي داود : 459 ـ 462 ، كتاب الخراج ب 19 ، سنن النسائي : 7 / 136 ، البداية والنهاية لابن كثير : 4 / 202 ـ 203 .
(3) فوائد الاُصول : 4 / 614 .
(4) درر الفوائد في الحاشية على الفرائد للآخوند الخراساني : 394 .
(الصفحة 405)
منكر في مقابله .
ومنه ظهر الوجه في اعتراض أمير المؤمنين (عليه السلام) على أبي بكر حيث طلب منها (عليها السلام) البيّنة ; فإنّه مع عدم إنكاره لدعواها الانتقال إليها في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) على سبيل الجزم ، بل عدم إنكار غيره كذلك ، لا وجه لمطالبة البيّنة منها (عليها السلام) مع كون يدها ثابتة ، فانتزاع فدك منها كان مستنداً إلى محض العناد ، ولغرض خلوّ يد صاحب الولاية من الاُمور المالية التي يمكن أن تؤثّر في إثباتها وتنفيذها ، كما هو ظاهر(1) .
ثمّ إنّه أفاد المحقّق النائيني (قدس سره) في مقام الجواب عن التوهّم المذكور كلاماً طويلا ملخّصه : أنّ إقرار الصدّيقة (عليها السلام) بأنّ فدكاً كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يوجب انقلاب الدعوى ; فإنّه على فرض صحّة قوله (صلى الله عليه وآله) : «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث الخ» لا يكون إقرارها كإقرار ذي اليد بأنّ المال كان لمن يرثه المدّعي ; فإنّ انتقال الملك من النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى المسلمين ليس كانتقال المال من المورّث إلى الوارث ; لأنّ انتقال الملك إلى الوارث إنّما يكون بتبدّل المالك الذي هو أحد طرفي الإضافة . وأمّا انتقاله إلى المسلمين فإنّما يكون بتبدّل أصل الإضافة ، نظير انتقال الملك من الواهب إلى المتّهب ، ومن الوصي إلى الموصى له .
وتوضيحه : أنّ الملكية عبارة عن الإضافة الخاصّة ، ولها طرفان المالك والمملوك ، وتبدّل الإضافة قد تكون من طرف المملوك كما في عقود المعاوضات ، فإنّ التبدّل في البيع إنّما يكون من طرف المملوك فقط ; فإنّه قبل البيع كان طرف الإضافة هو المثمن ، وبعد البيع هو الثمن .
وقد يكون من طرف المالك كالإرث ، فإنّ التبدّل فيه إنّما يكون من طرف المالك فقط ، وقد يكون بتبدّل أصل الإضافة كما في الهبة ; فإنّ الانتقال فيها ليس
- (1) درر الفوائد للشيخ الحائري : 2 / 616 ـ 617 .
(الصفحة 406)
كالانتقال في الإرث ولا كالانتقال في البيع ، بل إنّما يكون بإعدام الإضافة بين الواهب والموهوب ، وإحداث إضافة اُخرى بين المتّهب والموهوب ، وانتقال ما كان للنبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى المسلمين ـ بناءً على الخبر المجعول ـ يكون من هذا القبيل ; ضرورة أنّ المسلمين لم يرثوا المال من النبيّ (صلى الله عليه وآله) بحيث يكون سبيلهم سبيل الورّاث ، بل غايته أنّ أموال النبيّ (صلى الله عليه وآله) تصرف بعد موته في مصالحهم ، فانتقال المال إليهم يكون أسوأ حالا من انتقال المال إلى الموصى له ، ولا أقلّ من مساواته له .
ومن المعلوم أنّ إقرار ذي اليد إنّما يوجب انقلاب الدعوى من حيث إنّ الإقرار للمورّث إقرار للوارث ; لقيامه مقامه في طرف الإضافة ، وإقرار ذي اليد بأنّ المال كان للموصي ، يكون كإقراره بأنّ المال كان للثالث الأجنبي ، وليس للموصى له انتزاع المال عن يده ، بدعوى أنّه أوصى به إليه ، بل تستقرّ يد ذي اليد على المال إلى أن يُثبت الموصى له عدم انتقاله إلى ذي اليد في حياة الموصي .
فإقرارها (عليها السلام) بأنّ فدكاً كانت ملكاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يوجب انقلاب الدعوى ; لأنّه لا يرجع إقرارها بذلك إلى الإقرار بأنّها ملك للمسلمين ; فإنّهم لا يقومون مقام النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، بل هم أسواً حالا من الموصى له ، فلم يبق في مقابل يدها (عليها السلام) إلاّ الاستصحاب وهو محكوم باليد(1) .
ويرد عليه اُمور :
منها : أنّ ما أفاده من أنّ التبدّل في الإرث إنّما يكون من طرف المالك مع بقاء المملوك على ما هو عليه ، غايته أنّه قبل موت المورّث كان طرف الإضافة نفس المورّث ، وبعد موته يقوم الوارث مقامه ويصير هو طرف الإضافة .
يرد عليه ـ مضافاً إلى أنّه لم يقم دليل على ذلك لولم نقل بقيام الدليل ـ كظواهر
- (1) فوائد الاُصول : 4 / 615 ـ 617 .