(الصفحة 404)
الاُولى ، وبين ما ورد في محاجّة أمير المؤمنين (عليه السلام) مع أبي بكر في قضيّة فدك ، وقد تقدّم(1) في ضمن الروايات الدالّة على اعتبار اليد، الرواية الدالّة على هذه المحاجّة ، ورواها في الاحتجاج مرسلة .
بيان توهّم المنافاة ، أنّ الصّديقة (عليها السلام) قد اعترفت بأنّ فدكاً كانت ملكاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وادّعت أنّـها نحلة ، فلو كان الإقرار بانتقالها موجباً لانقلاب الدّعوى وصيرورة ذي اليد مدّعياً ، لكان مطالبة أبي بكر البيّنة منها (عليها السلام) في محلّها ، ولم يتوجّه عليه اعتراض أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد البناء على أنّ ما تركه النبي (صلى الله عليه وآله) لم ينتقل إلى وارثه ، بل يكون صدقة للمسلمين على ما رووه عنه (صلى الله عليه وآله) (2)(3) .
بيان الدّفع على ما أفاده بعض المحقّقين في تعليقته على الرسائل(4) ، وتبعه المحقّق اليزدي (قدس سره) في كتاب «الدّرر» ، هو أنّ الانقلاب وصيرورة المنكر مدّعياً إنّـما هو فيما إذا كان في مقابل المدّعي منكر حتى يتوجّه عليه اليمين مع عدم إقامة البيّنة . وأمّا إذا كان هنا مدّع مع عدم منكر في مقابله ، كما إذا قال الخصم : لا أدري صدق ما تقول أو كذبه ولا أعلم بالحال ، فإن كانت البيّنة للمدّعي على طبق ما يقول يؤخذ بها ، وإلاّ فلا مانع من الأخذ بسائر القواعد الموجودة ، من قبيل الاستصحاب أو اليد ، فلو كانت العين في يد المدّعي ، ويدّعي انتقالها من الميّت في حال حياته إليه ، ولا ينكر ذلك الورثة جزماً ، يحكم بكونها ملكاً لذي اليد ; إذ لا
- (1) في ص 380 ـ 381، وقد ذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : 16 / 209 ما ورد من السير والأخبار في أمر فدك ، وأنّه هل النبي (صلى الله عليه وآله) يورث أم لا؟ وأنّ فدك هل صحّ كونها نحلة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لفاطمة (عليه السلام) أم لا؟ مفصّلا
(2) مسند أحمد : 1 / 25 ح 25 ، صحيح البخاري : 4 / 52 ح 3093 و ج 5 / 30 ح 4036 ، صحيح مسلم : 3 / 1105 ـ 1109 باب حكم الفئ ح 49 ، 51 ، 52 ، 54 و 56 ، سنن أبي داود : 459 ـ 462 ، كتاب الخراج ب 19 ، سنن النسائي : 7 / 136 ، البداية والنهاية لابن كثير : 4 / 202 ـ 203 .
(3) فوائد الاُصول : 4 / 614 .
(4) درر الفوائد في الحاشية على الفرائد للآخوند الخراساني : 394 .
(الصفحة 405)
منكر في مقابله .
ومنه ظهر الوجه في اعتراض أمير المؤمنين (عليه السلام) على أبي بكر حيث طلب منها (عليها السلام) البيّنة ; فإنّه مع عدم إنكاره لدعواها الانتقال إليها في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) على سبيل الجزم ، بل عدم إنكار غيره كذلك ، لا وجه لمطالبة البيّنة منها (عليها السلام) مع كون يدها ثابتة ، فانتزاع فدك منها كان مستنداً إلى محض العناد ، ولغرض خلوّ يد صاحب الولاية من الاُمور المالية التي يمكن أن تؤثّر في إثباتها وتنفيذها ، كما هو ظاهر(1) .
ثمّ إنّه أفاد المحقّق النائيني (قدس سره) في مقام الجواب عن التوهّم المذكور كلاماً طويلا ملخّصه : أنّ إقرار الصدّيقة (عليها السلام) بأنّ فدكاً كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يوجب انقلاب الدعوى ; فإنّه على فرض صحّة قوله (صلى الله عليه وآله) : «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث الخ» لا يكون إقرارها كإقرار ذي اليد بأنّ المال كان لمن يرثه المدّعي ; فإنّ انتقال الملك من النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى المسلمين ليس كانتقال المال من المورّث إلى الوارث ; لأنّ انتقال الملك إلى الوارث إنّما يكون بتبدّل المالك الذي هو أحد طرفي الإضافة . وأمّا انتقاله إلى المسلمين فإنّما يكون بتبدّل أصل الإضافة ، نظير انتقال الملك من الواهب إلى المتّهب ، ومن الوصي إلى الموصى له .
وتوضيحه : أنّ الملكية عبارة عن الإضافة الخاصّة ، ولها طرفان المالك والمملوك ، وتبدّل الإضافة قد تكون من طرف المملوك كما في عقود المعاوضات ، فإنّ التبدّل في البيع إنّما يكون من طرف المملوك فقط ; فإنّه قبل البيع كان طرف الإضافة هو المثمن ، وبعد البيع هو الثمن .
وقد يكون من طرف المالك كالإرث ، فإنّ التبدّل فيه إنّما يكون من طرف المالك فقط ، وقد يكون بتبدّل أصل الإضافة كما في الهبة ; فإنّ الانتقال فيها ليس
- (1) درر الفوائد للشيخ الحائري : 2 / 616 ـ 617 .
(الصفحة 406)
كالانتقال في الإرث ولا كالانتقال في البيع ، بل إنّما يكون بإعدام الإضافة بين الواهب والموهوب ، وإحداث إضافة اُخرى بين المتّهب والموهوب ، وانتقال ما كان للنبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى المسلمين ـ بناءً على الخبر المجعول ـ يكون من هذا القبيل ; ضرورة أنّ المسلمين لم يرثوا المال من النبيّ (صلى الله عليه وآله) بحيث يكون سبيلهم سبيل الورّاث ، بل غايته أنّ أموال النبيّ (صلى الله عليه وآله) تصرف بعد موته في مصالحهم ، فانتقال المال إليهم يكون أسوأ حالا من انتقال المال إلى الموصى له ، ولا أقلّ من مساواته له .
ومن المعلوم أنّ إقرار ذي اليد إنّما يوجب انقلاب الدعوى من حيث إنّ الإقرار للمورّث إقرار للوارث ; لقيامه مقامه في طرف الإضافة ، وإقرار ذي اليد بأنّ المال كان للموصي ، يكون كإقراره بأنّ المال كان للثالث الأجنبي ، وليس للموصى له انتزاع المال عن يده ، بدعوى أنّه أوصى به إليه ، بل تستقرّ يد ذي اليد على المال إلى أن يُثبت الموصى له عدم انتقاله إلى ذي اليد في حياة الموصي .
فإقرارها (عليها السلام) بأنّ فدكاً كانت ملكاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يوجب انقلاب الدعوى ; لأنّه لا يرجع إقرارها بذلك إلى الإقرار بأنّها ملك للمسلمين ; فإنّهم لا يقومون مقام النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، بل هم أسواً حالا من الموصى له ، فلم يبق في مقابل يدها (عليها السلام) إلاّ الاستصحاب وهو محكوم باليد(1) .
ويرد عليه اُمور :
منها : أنّ ما أفاده من أنّ التبدّل في الإرث إنّما يكون من طرف المالك مع بقاء المملوك على ما هو عليه ، غايته أنّه قبل موت المورّث كان طرف الإضافة نفس المورّث ، وبعد موته يقوم الوارث مقامه ويصير هو طرف الإضافة .
يرد عليه ـ مضافاً إلى أنّه لم يقم دليل على ذلك لولم نقل بقيام الدليل ـ كظواهر
- (1) فوائد الاُصول : 4 / 615 ـ 617 .
(الصفحة 407)
الآيات(1) الورادة في الإرث ـ على الخلاف ، وأنّ الوارث يملك ما ترك المورّث من غير أن يقوم مقامه ـ : أنّ مقتضى ذلك انتقال الأموال إلى الميّت لو فرض حياته بعد موته ; لأنّ المفروض أنّ الوارث قائم مقامه ، ومع وجود المبدل لا يبقى شأن للبدل ، مع أنّه من المعلوم خلافه .
ومنها : أنّ ما أفاده من أنّ انتقال المال بالهبة إلى المتّهب ليس من قبيل انتقاله بالإرث ، ولامن قبيل انتقاله بالبيع ، بل إنّما يكون بإعدام إضافة وإحداث إضافة اُخرى ، كما في الوصية .
يرد عليه : أنّ إيجاد الإضافة الثانية لابدّ وأن يكون مسبوقاً ولو رتبة بإعدام الإضافة الأولى ; لأنّه ما لم يتحقّق هذا الاعدام لا يمكن إيجاد إضافة اُخرى ; لعدم اجتماع إضافتين في آن واحد ; لامتناع اجتماع ملكيتين مستقلّتين على مال واحد ، ومن المعلوم أنّه بعد انعدام الإضافة الأولى لا يكون الواهب أولى بالموهوب ، بل نسبته إليه كنسبة المتّهب اليه ، ولا مرجح لأحدهما على الآخر ، فإيجاده الإضافة بعد عدم قيامها به لا أثر له أصلا .
ومنها : أنّ ما أفاده من أنّ انتقال ما كان للنبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى المسلمين بناءً على الخبر المجعول ليس كانتقاله إلى الوارث ، بل هو أشبه بانتقال المال إلى الموصى له ; لما أفاده .
فيرد عليه : أنّه لا فرق في الصورتين إلاّ في مجرّد دعوى الوارث الملكية ، ودعوى المسلمين أو وليّهم السلطنة على المال وإن لم يكن ملكاً لهم ، وأمّا كون هذا الفرق موجباً للانقلاب في الصورة الأولى ، وعدمه في الصورة الثانية ، فلا وجه له أصلا ;لعدم مدخلية هذه الجهة في مايرجع إلى المدّعيوالمنكروالآثارالمترتّبة عليهما .
وبعبارة اُخرى : محلّ النزاع بين المتخاصمين هو تحقّق الانتقال ممّن كان ملكاً
- (1) سورة النساء 4 : / 11 ـ 12 و 176 ، سورة الأنفال 8 : 75 ، سورة الأحزاب 33 : 6 .
(الصفحة 408)
له أوّلا وعدمه . وأمّا على أنّه على تقدير عدم تحقّق الانتقال إلى ذي اليد وانتقاله إلى الوارث يكون انتقاله كما في سائر موارد الإرث ، أو يكون بنحو خاصّ ، فلا دخالة له في الفرق أصلا .
هذا ، وقد ذكر المحقّق البجنوردي (قدس سره) أنّه على تقدير تسليم دعوى الانقلاب فالأحسن أن يقال : إنّ هاهنا دعويين ، إحداهما : دعوى الانتقال ، وبالنسبة إلى هذه الدعوى هي ـ سلام الله عليها ـ مدّعية ، وعليها البيّنة ، والاُخرى : دعوى الملكية ، وبالنسبة إلى هذه الدعوى حيث أنّـها (عليها السلام) كانت ذات يد ، كانت البيّنة على طرفها ; أي أبي بكر ، الذي بزعمه كان وليّ المسلمين ، فكأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) احتج على أبي بكر بالنسبة إلى هذه الدعوى الأخيرة إن كانت الدعوى الأولى مسكوتاً عنها(1) .
ويرد عليه : أنّه إن كان المراد أنّ هاهنا دعويين غير مرتبطتين ، وقعت الأولى مسكوتاً عنها والثانية مورداً للإنكار ، فمن الواضح خلافه ; ضرورة ارتباط الدعويين وابتناء الثانية على الاُولى ، وأنّ الملكية إنّـما هي لأجل تحقّق النّحلة والإعطاء من النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) .
وإن كان المراد أنّه مع تحقّق الارتباط وابتناء الثانية على الاُولى يقطع النظر عن الاُولى ويتّكل على الثانية ، والاعتراض إنّما هو مبنيّ عليه ، فالظاهر أنّه لا وجه للإغماض وقطع النظر عن الاُولى التي هي الأصل للثانية ، فالجواب عن التوهّم المذكور ما ذكرنا .
وينبغي التّنبيه على اُمور :
الأوّل : لا إشكال في تقدّم اليد ـ بناءً على كونها أمارة ـ على الاُصول العملية التي منها الاستصحاب الجاري على خلاف مقتضى اليد في جلّ مواردها لولا كلّها ;
- (1) القواعد الفقهيّة : 1 / 149 .