(الصفحة 409)
وذلك لتقدّم الأمارة على الأصل العملي على ما هو المحقّق في محلّه ، وأمّا ما حكي عن المحقّق العراقي (قدس سره) فيما إذا ادّعى ذو اليد انتقال المال من المدّعي إليه ، من أنّ مقتضى اليد هو كون هذا المال ملكاً لذي اليد ، وأنّه انتقل منه إليه ، ومقتضى استصحاب عدم الانتقال عدم كونه ملكاً لذي اليد وبقاؤه على ملك الطرف ، فأمارية اليد هنا مع حجّية الاستصحاب ممّا لا يجتمعان ، وبناءً على حجّية الاستصحاب لا يبقى مجال لأمارية اليد ; لأنّ مؤدّى الاستصحاب هو التعبّد بعدم الانتقال ، ومعه لا يبقى لليد مجال(1) .
فيرد عليه : وضوح تقدّم الأمارة على الأصل في صورة التعارض وعدم الاجتماع وإن كان مراده عدم حجّية اليد في خصوص هذا المورد ; لما عرفت(2) من الانقلاب وصيرورة المدّعي منكرا وبالعكس ، كما ذكرنا ، فهو صحيح ، ولكنّه لا يلائم مع عبارته أصلا كما لا يخفى .
وأمّا بناءً على كون اليد أصلا عمليّاً أو مردّداً بين كونه أمارة أو أصلا ، فالظاهر أيضاً تقدّمها على الاستصحاب ; لأنّه على فرض التعارض أو تقدّم الاستصحاب يصير اعتبارها وجعل الحجّية لها تأسيساً أو إمضاءً لغواً ، ففي الحقيقة على هذا التقدير يكون دليل اعتبارها مخصّصاً لدليل اعتبار الاستصحاب ، وهذا كقاعدتي الفراغ والتجاوز ، حيث إنّهما تقدّمان على الاستصحاب الجاري في موردهما ، وإلاّ تلزم اللّغوية كما ذكر .
وأمّا اليد ، بناءً على كونها أمارة ، فبالنسبة إلى سائر الأمارات لا إشكال في تقدّم البيّنة عليها ، بل ربما يدّعى كونه في باب الدعاوي من المسلّمات عند جميع
- (1) تعليقات فوائد الاُصول : 4 / 611 ـ 612 ، نهاية الأفكار 4 ، القسم الثاني : 28 ـ 29 ، والحاكي هو السيد البجنوردي في القواعد الفقهيّة : 1 / 148 .
(2) في ص 402 ـ 403 .
(الصفحة 410)
المسلمين ; لأنّ توقّف ثبوت دعوى المدّعي على البيّنة والحكم له استناداً إليها ، إنّـما هو في مقابل ذي اليد نوعاً ، فلا شبهة في هذا التقدّم .
وأمّا تقدّم الإقرار على اليد فيما إذا أقرّ بأنّ ما في يدي لزيد مثلا ، فلأجل أنّ اعتبار اليد عند العقلاء إنّـما هو فيما إذا لم ينضمّ إليها الإقرار بعدم كونه ملكاً له ، ولذا لو أقرّ بهذا المقدار وهو عدم كونه ملكاً له يكفي في سقوط اليد عن الحجّية والاعتبار ، ولا يلزم الإقرار بكونه ملكاً لفلان مثلا ، بل ربما يقال بعدم اعتبار اليد مع تردّد ذي اليد في كونه ملكاً له ، ولكن عرفت(1) في ذكر بعض موارد الخلاف شمول أدلّة اعتبار اليد لهذه الصّورة ، ولا يلزم اعتقاد ذي اليد الملكية أو إظهاره لها ، كما لا يخفى .
وكيف كان ، فالظاهر أنّه لا شبهة في تقدّم الإقرار على اليد ، وانحصار حجّيتها بما إذا لم يكن هناك إقرار على خلافها .
وأمّا بالنسبة إلى سائر الأمارات غير البيّنة والإقرار ، فكلّ أمارة تكون حجّية اليد مقيّدة بعدمها ، فهي متقدّمة على اليد ، وإلاّ تكون الأمارتان متعارضتين ، ولا يبقى ترجيح في البين .
الثاني : أنّ القاعدة هل تجري في الحقوق أم لا؟ والظاهر أنّ الحقوق كالمنافع ، من دون فرق بين ما تعلّق منها بالأعيان المتموّلة ، كحقّ الرهانة وحقّ التولية ونحوهما من الحقوق ، وبين ما تعلّق منها بالأعيان غير المتموّلة كحقّ الاختصاص المتعلّق بالعذرة والخمر والميتة ، وقد عرفت(2) في المنافع أنّه لا فرق بين ما كان في مقابل ذي اليد مالك العين أو الأجنبيّ .
ودعوى أنّ أدلّة اعتبار اليد لا تشمل الحقوق وإن كانت شاملة للمنافع ; لأنّ
- (1) في ص 396 ـ 397 .
(2) في ص 390 .
(الصفحة 411)
الحقوق اُمور اعتبارية صرفة معتبرة عند العقلاء والشارع ، أو خصوص الشارع ، بخلاف المنافع ; فإنّها ليست اعتباريّة بل موجودة بتبع وجود العين ، غاية الأمر أنّ وجود المنافع تدريجيّ بخلاف وجود العين ، مدفوعة بأنّ مقتضى إطلاق أدلّة الاعتبار الشمول للحقوق ، بل يمكن أن يقال بورود الرواية الواردة في الرّحى المتقدّمة(1) في الحقوق دون المنافع ، فتدبّر .
الثالث : هل تجري قاعدة اليد في النسب والأعراض أم لا؟ وذلك كما لو تنازع شخص مع آخر في امرأة تحت يد أحدهما ; أي تكون في بيته ويعامل معها معاملة الزوجيّة ، وهكذا في صبيّ تحت يد أحدهما ، فيدّعي الآخر كونها زوجة له أو ولداً له ، وينكره صاحب اليد بالمعنى المذكور ، لا يبعد أن يقال بثبوت بناء العقلاء هنا أيضاً كثبوته في الأملاك ، بل يمكن أن يقال باقوائيّة الملاك هنا ، فإنّ الظنّ الحاصل من الغلبة هنا أقوى من الظنّ الحاصل في الأملاك ; لشيوع الغصب فيها دون المقام .
نعم ، الظاهر اختصاص الاعتبار في الفرض الأوّل بما إذا لم يكن هناك إنكار من ناحية الزوجة التي في بيته ; لأنّه مع وجود الإنكار لم يثبت بناء العقلاء لو لم نقل بثبوت العدم ، فتدبّر .
ويؤيّد ما ذكرنا حكاية الإجماع(2) على تقديم قول صاحب اليد فيما لو تنازع رجلان في زوجيّة امرأة هي تحت أحدهما . نعم ، في مسألة تنازع اثنين على بنوّة صبيّ في يد أحدهما يظهر من كلماتهم التساوي في الدعوى ، وأنّه من باب التداعي دون المدّعي والمدّعى عليه . نعم ، قال في محكيّ القواعد : ولو تداعيا صبيّاً وهو في يد أحدهما لحق بصاحب اليد خاصّة على إشكال(3) ، ويظهر من الفخر في شرحه
- (1) في ص 380 .
(2) لم نعثر عليه عاجلاً.
(3) قواعد الأحكام : 3 / 482 .
(الصفحة 412)
وجود القائل به وإن اختار نفسه العدم ، معلّلا بأنّ اليد لا تأثير لها في النسب ولا في ترجيحه(1) ، بل ربما يقال بأنّ التقديم لو قيل به إنّما هو لترجيح أحد الإقرارين باليد لا لتقديم قول ذي اليد من حيث هو ذو اليد ، على من يدّعي عليه . هذا ، والظاهر ما ذكرنا .
الرّابع : قد وقع التسالم بين الفقهاء على قبول إقرار ذي اليد لأحد المتنازعين فيما بيده ، بحيث يجعله المنكر كنفس ذي اليد ، ويجعل الطرف الآخر مدّعياً وعليه إقامة البيّنة ، وإنّـما الإشكال في وجهه ، واختلفت الآراء في ذلك على أقوال :
أحدها : أنّ الوجه في ذلك هي قاعدة «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» نظراً إلى أنّ مقتضاها نفوذ الإقرار على النفس وبضرره ، وحيث إنّ ذا اليد في المقام يقرّ لشخص آخر ، ويعترف أنّه له ، فهذا إقرار على النفس ، واللاّزم الأخذ به والحكم بنفوذه ومضيّه (2).
أقول : قد مرّ في البحث عن قاعدة الإقرار أنّ مقتضاها الاقتصار في النفوذ والمضيّ على المقدار الذي بضرره ، وعلى خصوص الجهة التي تكون عليه ، وأمّا الإقرار بنفع الغير فلا يستفاد من القاعدة جوازه ونفوذه ، فالإقرار على أنّ ما بيده ملك لزيد مثلا له جهتان :
إحداهما : الجهة السلبيّة ; وهي عدم كونه له ، والاُخرى : الجهة الإثباتية ; وهي كونه لزيد في المثال ، والذي يستفاد من القاعدة نفوذه ومضيّه هي الجهة الاُولى فقط ، وقد تقدّم في البحث عن القاعدة أيضاً أنّه لا فرق في ذلك بين أن يكون الظرف متعلّقاً بالإقرار ، وبين أن يكون متعلّقاً بجائز ، وأنّه على التقدير الأوّل أيضاً لا دلالة للقاعدة على نفوذ الإقرار على النفس مطلقاً ولو بالإضافة إلى
- (1) إيضاح الفوائد : 4 / 399 .
(2) القواعد الفقهيّة للمحقق البجنوردي: 1 / 163 .
(الصفحة 413)
الجهة الإثباتية ، فراجع(1) .
ثانيها : أنّ الوجه في ذلك هي قاعدة «من ملك شيئاً ملك الإقرار به» نظراً إلى أنّ ذا اليد مالك لأن يملّك ما في يده للغير ببيع أو صلح أو نحوهما ، فيملك الإقرار بأنّه له (2).
ويرد عليه : أنّ الذي يملّكه هو تمليك الغير المقرّ له فيملك الإقرار به ، والمفروض في المقام أنّه لم يقرّ به ، بل أقرّ بكونه للمقرّ له ، وأنّه مالكه ، والمقرّ لا يكون مالكاً لهذه الجهة حتّى يملك الإقرار به ، ففي هذا الوجه خلط .
ثالثها : ما حكي عن المحقّق العراقي (قدس سره) من أنّ اليد أمارة على ملكيّة ذي اليد بالدلالة المطابقيّة ، وعلى نفي كونه للغير بالدلالة الالتزاميّة ، وهاتان الأماريتان تسقطان بسبب الإقرار للغير . وأمّا بالنسبة إلى ما عداهما فأماريّتها باقية على حالها ، فالنتيجة قيام الحجّة على نفي الملكيّة عن ذي اليد وعن غيره ما عدا المقرّ له ، ومعلوم أنّ المال لا يبقى بلا مالك .
وبعبارة اُخرى : أنّ هذا المال إمّا للمقرّ له أو لغيره يقيناً ، فإذا ثبت بواسطة إقرار ذي اليد أنّه ليس لغير المقرّ له ، فلابدّ وأن يكون له ، فيكون هو المنكر وطرفه المدّعي بناءً على ما هو التحقيق من أنّ المدّعي من يكون قوله مخالفاً للحجّة الفعليّة ، والمنكر من يكون قوله موافقاً للحجّة الفعلية(3) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى ما عرفت من أنّ تشخيص المدّعي عن المنكر موكول إلى العرف(4) ، كسائر العناوين المأخوذة في الأدلّة موضوعة للأحكام ـ : أنّه لابدّ في
- (1) في ص 69 ـ 75 .
(2) القواعد الفقهيّة للمحقّق البجنوردي: 1 / 164 .
(3) الحاكي هو المحقّق البجنوردي في القواعد الفقهيّة : 1 / 164 ـ 165 .
(4) في ص 402 .