(الصفحة 436)
ممتازاً عن غيره ، وأصل الدحض : الزلق ، والإدحاض : الإزالة والإبطال ، وأصل المعنى كما عن المجمع : صار من المقروعين المغلوبين المقهورين(1) ، وكيفيّة الواقعة على ما في الخبر أنّه لمّا وعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمره الله تعالى به ، فركب السّفينة فوقفت ، فقالوا : هاهنا عبد آبق فاقترعوا له ، فخرجت القرعة على يونس ، فقال : أنا الآبق ورمى بنفسه في الماء ، فالتقمه الحوت(2) .
ودعوى أنّه لا دلالة للآية على المشروعية ; فإنّ غاية مفادها الحكاية ، وهي أعمّ من المشروعية ، مدفوعة ـ مضافاً إلى ما عرفت من أنّه ورد في الأخبار الاحتجاج على شرعية القرعة بهذه الآية ـ بأنّه لا مجال للمناقشة في دلالة الآية على قبول يونس للمقارعة لو لم نقل بأنّ ظاهرها تصدّي نفسه لها ، و هذا القبول إن كان منشؤه كونه أمراً تعبّدياً جاء به يونس ، فمقتضى الاستصحاب عند الشكّ في البقاء بقاؤه في هذه الشريعة ; لما تقرّر في محلّه من جريان استصحاب أحكام الشرائع السابقة(3) وإن كان منشؤه كونه أمراً عقلائيّاً كما هو الظاهر ، وقد أمضاه النبيّ يونس ، فاللازم ثبوته في هذه الشريعة لهذه الجهة ، كما لا يخفى .
ثانيهما : ما ورد في قصّة التخاصم في تكفّل مريم واقتراعهم لذلك من قوله تعالى : {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}(4) وكيفيّة الواقعة أنّ زكريّا (عليه السلام) قال لهم : أنا أحقّ بمريم ; أي من جهة التكفّل ; لأنّ عندي خالتها ، قالوا : لا حتى نقرع عليها ، فانطلقوا إلى نهر الاُردن ، فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون بها الوحي ، على أنّ من ارتفع قلمه فوق الماء فهو أحقّ بها(5) . وقيل : إنّ أقلامهم
- (1) مجمع البحرين : 1 / 579 .
(2) أنوار التنزيل : 2 / 300 ، وعنه تفسير كنز الدقائق : 8 / 512 ـ 513 .
(3) سيرى كامل در اصول فقه : 15 / 107 ـ 132 .
(4) سورة آل عمران 3 : 44 .
(5) مجمع البيان : 1 / 282 ـ 283 ، وعنه بحار الأنوار : 14 / 196 .
(الصفحة 437)
كانت من الحديد ، فألقوا أقلامهم ثلاث مرّات ، وفي كلّ مرّة يرتفع قلم زكريّا وترسب أقلامهم ، والمناقشة في دلالة الآية على المشروعية مدفوعة بما عرفت في الآية الاُولى .
الثاني : الروايات ، وهي على ثلاث طوائف :
الطائفة الاُولى : ما يستفاد منها العموم في جميع الموارد ، مثل :
ما رواه الشيخ عن محمّد بن حكيم قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن شيء ، فقال لي : كلّ مجهول ففيه القرعة ، قلت له : إنّ القرعة تخطئ وتصيب ، قال : كلّ ما حكم الله به فليس بمخطىء . ورواه الصدوق بطريقين صحيحين(1) عنه(2) ، ويظهر من الشيخ في كتاب النهاية الاعتماد على هذه الرّواية ، بل وصدور مضمونها عن غير أبي الحسن (عليه السلام) أيضاً (3)، وكذا يظهر منه الاعتماد عليها في كتاب الخلاف(4) ، وكذا من الحلّي في السّرائر(5) ، والشهيد في القواعد(6) مع اختلاف في التعبير .
مضافاً إلى أنّ الظاهر أنّ محمّد بن حكيم هو الخثعمي الذي لا تبعد دعوى وثاقته ; لكونه صاحب الأصل ، ولكثرة نقل المشايخ بل أصحاب الإجماع عنه ، ولو كان في الرواية ضعف فهو منجبر بعمل الأصحاب واعتمادهم عليها ، وليس في طرقنا مايستفاد منه العموم غير هذه الرواية ، لكن سيأتي التحقيق في مفادها ، فانتظر .
- (1) مشيخة الفقيه : 884 .
(2) تهذيب الأحكام : 6 / 240 ح 593 ، الفقيه : 3 / 52 ح 174 ، وعنهما وسائل الشيعة : 27 / 259 كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ب 13 ح 11 .
(3) النهاية : 346 .
(4) الخلاف : 6 / 338 مسألة 10 .
(5) السرائر : 2 / 172 ـ 173 .
(6) القواعد والفوائد : 2 / 183 .
(الصفحة 438)
وكالرّوايتين العامّيتين : القرعة لكلّ أمر مشكل ، والقرعة لكلّ أمر مشتبه ، وعن الحلّي دعوى الإجماع على أنّ كلّ مشكل فيه القرعة(1) ، ونقل عنه أيضاً أنّه قال في باب سماع البيّنات : وكلّ أمر مشكل مجهول يشتبه الحكم فيه ، فينبغي أن تستعمل فيه القرعة ; لما روي عن الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) وتواترت به الآثار وأجمعت عليه الشيعة الإماميّة(2) .
وما رواه في المستدرك عن دعائم الإسلام ، عن أمير المؤمنين وأبي جعفر وأبي عبد الله (عليهم السلام) : أنّهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما اُشكل(3) .
قال أبو عبد الله (عليه السلام) : وأيّ حكم في الملتبس أثبت من القرعة؟ أليس هو التفويض إلى الله جلّ ذكره؟ ثمّ ذكر قصّة يونس ومريم وعبد المطلّب(4) .
وما رواه فيه أيضاً عن الشيخ المفيد (قدس سره) في الاختصاص ، عن أحمدبن محمدبن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ومحمد بن خالد البرقي ، عن النضربن سويد ، عن يحيى بن عمران الحلبي ، عن عبد الله بن مسكان ، عن عبد الرحيم قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول :
إنّ عليّاً (عليه السلام) كان إذا ورد عليه أمر لم يجىء فيه كتاب ولم تجر به سنّة رجم فيه ـ يعني ساهم ـ فأصاب ، ثمّ قال : يا عبد الرّحيم وتلك من المعضلات(5) .
- (1) السرائر : 2 / 170 و ج 3 / 417 .
(2) السرائر : 2 / 173 .
(3) دعائم الإسلام : 2 / 522 ح 1864 ، وعنه مستدرك الوسائل : 17 / 373 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 11 ح 21617 .
(4) دعائم الإسلام : 2 / 522 ملحق ح 1864 ، وعنه مستدرك الوسائل : 17 / 374 ، كتاب القضاء ، أبواب الحكم وأحكام الدعوى ب 11 ح 21618 .
(5) الاختصاص : 310 ، وعنه بحار الأنوار : 26 / 32 ح 49 و مستدرك الوسائل : 17 / 378 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 11 ح 14 ، وفي البحار : 2 / 177 ح 20 عن بصائر الدرجات : 389 ، الجزء الثامن ، الباب السابع ح 4 .
(الصفحة 439)
الطائفة الثانية : ما يستفاد منه العموم في الجملة ، ككثير من الروايات الواردة في القرعة التي نقل أكثرها في الوسائل في الباب «12» وفي الباب «13» من أبواب كيفيّة الحكم ، وفي المستدرك في الباب «11» من تلك الأبواب ، مثل :
ما ورد في ذيل صحيحة أبي بصير ـ برواية الصّدوق ـ من قول النبيّ (صلى الله عليه وآله) : ليس من قوم تقارعوا وفوّضوا أمرهم الى الله ـ عزّ وجلّـ إلاّ خرج سهم المحقّ(1) .
وقريب منه ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذيل رواية العبّاس بن هلال(2) .
ومرسلة الصّدوق عن الصادق (عليه السلام) (3) .
ومرسلة فقه الرّضا عنه (عليه السلام) قال : أيّ قضية أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى الله ; لقوله تعالى : {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}(4) . وكذا رواية أحمد البرقي(5) .
الطائفة الثالثة : الروايات الواردة في موارد خاصّة ، وهي كثيرة :
منها : ما إذا تعارضت البيّنتان وكان المرجّح مفقوداً ، ففي صحيحة داود بن سرحان ـ برواية الصدوق ـ عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجلين شهدا على رجل في أمر ،
- (1) الفقيه : 3 / 54 ح 183 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 258 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب13 ح 6 .
(2) تهذيب الأحكام : 9 / 363 ح 1298 ، وعنه وسائل الشيعة : 26 / 312 ، كتاب الفرائض والمواريث ، أبواب ميراث الغرقي والمهدم عليهم ب 4 ح 4 .
(3) الفقيه : 3 / 52 ح 175 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 261 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 13 ح 13 .
(4) الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام) : 262 ، وعنه مستدرك الوسائل : 17 / 374 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 11 ح 4 .
(5) المحاسن : 2 / 439 ح 2524 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 261 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 13 ح 17 .
(الصفحة 440)
وجاء آخران فشهدا على غير الذي شهد عليه الاُوليان ، قال : يقرع بينهم ، فأيّهم قرع فعليه اليمين وهو أولى بالقضاء(1) . وفي صحيحة الحلبي قريب منها ، إلاّ أنّ في آخرها بدل و«هو أولى بالقضاء» : وهو أولى بالحقّ(2) .
وفي صحيحة البصري ـ بروايته أيضاً ـ عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال : كان عليّ (عليه السلام) إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود عدّتهم سواء وعدالتهم سواء ، أقرع بينهما على أيّـهما تصير اليمين(3) .
ومنها : الإشهاد على الدّابة ، ففي موثّقة سماعة ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إنّ رجلين اختصما إلى عليّ (عليه السلام) في دابّة ، فزعم كلّ واحد منهما إنّها نتجت على مذوده(4) ، وأقام كلّ واحد منهما بيّنة سواء في العدد ، فأقرع بينهما سهمين(5) .
ومنها : الإشهاد بالإيداع على الظاهر ، ففي رواية زرارة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قلت له : رجل شهد له رجلان بأنّ له عند رجل خمسين درهماً ، وجاء آخران فشهدا بأنّ له عنده مائة درهم ، كلّهم شهدوا في موقف ، قال : اُقرع بينهم ، ثمّ استحلف الذين أصابهم القرع(6) .
- (1) الفقيه : 3 / 52 ح 178 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 252 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 12 ملحق ح 6 .
(2) تهذيب الأحكام : 6 / 235 ح 577 ، الاستبصار : 3 / 40 ح 137 ، وعنهما وسائل الشيعة : 27 / 254 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 12 ح 11 .
(3) الفقيه : 3 / 53 ح 181 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 251 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ب 12 ح 5 .
(4) المذود : معلف الدابّة .
(5) تهذيب الأحكام : 6 / 234 ح 576 ، الاستبصار : 3 / 40 ح 136 ، الفقيه : 3 / 52 ح 177 ، وعنها وسائل الشيعة : 27 / 254 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 12 ح 12 .
(6) الكافي : 7 / 420 ح 1 ، تهذيب الأحكام : 6 / 235 ح 578 ، الاستبصار : 3 / 41 ح138 ، وعنها وسائل الشيعة : 27 / 252 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 12 ح 7 .