(الصفحة 498)
على المخبر به بحيث كان إخباره بمنزلة العلم المتعلّق به ، فيرتّب أثر شرب الخمر في مورد الرواية ، بل المراد هو التحذّر ممّا أخبر به ، مع احتمال أن يكون على تقدير الصدق فيه ضررعليه ، كمايدلّ عليه التأمّل في الرواية وفي الاستشهاد بالآية ، فتدبّر .
وثالثاً : أنّه لو فرض دلالة الرواية على ذلك ، تقع المعارضة بينها وبين موثّقة مسعدة المتقدّمة ، فينبغي تقييد إطلاقها بها والحكم بالاعتبار مع التعدّد والعدالة .
ومنها : مضمرة سماعة قال : سألته عن رجل تزوّج جارية أو تمتّع بها ، فحدّثه رجل ثقة أو غير ثقة ، فقال : إنّ هذه امرأتي وليست لي بيّنة ، فقال : إن كان ثقة فلا يقربها ، وإن كان غير ثقة فلا يقبل منه(1) .
وفيه أوّلا : أنّها معارضة ببعض الروايات الاُخر التي أفتى المشهور(2) على طبقها ، مثل رواية يونس قال : سألته عن رجل تزوّج امرأة في بلد من البلدان ، فسألها لك زوج؟ فقالت : لا . فتزوّجها ، ثمّ إنّ رجلا أتاه فقال : هي امرأتي ، فأنكرت المرأة ذلك ، ما يلزم الزوج؟ فقال : هي امرأته إلاّ أن يقيم البيّنة(3) .
وثانياً : اعتبار خبر الثقة في مورد المضمرة لا دلالة فيه على اعتباره في جميع الموضوعات الخارجيّة الذي هو المدّعى في المقام ، ومن المحتمل أن يكون الوجه في اعتباره فيه هي شدّة حسن الاحتياط في الفروج ، وقد مرّ(4) أنّه قام الدليل على الاعتبار في موارد متعدّدة ، لكنّ البحث في جواز التعدّي عن تلك الموارد ، ولم يقم دليل إلى الآن على عموميّة الاعتبار وعدم الاختصاص بتلك الموارد .
- (1) تهذيب الأحكام : 7 / 461 ح 1845 ، وعنه وسائل الشيعة 20 / 300 ، كتاب النكاح ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ب 23 ح 2 .
(2) القواعد الفقهيّة للمحقق البجنوردي : 3 / 35 .
(3) تهذيب الأحكام : 7 / 468 ح 1874 و ص 477 ح 1914 ، وعنهما وسائل الشيعة 20 / 300 ، كتاب النكاح ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ب 23 ح 3 .
(4) في ص 490 ـ 492 .
(الصفحة 499)
خاتمة في بيان أمرين :
الأوّل : أنّه ذكر في «المستمسك» أنّه يثبت الاجتهاد بخبر الثقة ، مستدلا بعموم ما دلّ على حجّيته في الأحكام الكلّية ; إذ المراد منه ما يؤدّي إلى الحكم الكلّي ; سواء كان بمدلوله المطابقي أم الالتزامي ، والمقام من الثاني ; فإنّ مدلول الخبر المطابقي هو وجود الاجتهاد ، وهو من هذه الجهة يكون إخباراً عن الموضوع ، لكن مدلوله الالتزامي هو ثبوت الحكم الواقعي الكلّي الذي يؤدّي إليه نظر المجتهد ، ثمّ قال :
فإن قلت : أدلّة حجّية خبر الثقة مختصّة بالإخبار عن حسّ ، ولا تشمل الإخبار عن حدس ، ولذا لم تكن تلك الأدلّة دالّة على حجّية فتوى المجتهد ، مع أنّها إخبار عن الحكم الكلّي ، إلاّ أنّ مستنده الحدس .
قلت : الإخبار عن الاجتهاد من قبيل الإخبار عن الحسّ . نعم ، المدلول الالتزامي ـ وهو الحكم الكلّي ـ إنّما كان بتوسّط الحدس . لكن هذا المقدار لا يقدح في الحجيّة ; لأنّ الحس إنّما يعتبر في المدلول المطابقي ، لا في الملازمة التي يتوقّف عليها ثبوت المدلول الالتزامي ، وإلاّ فإخبار زرارة مثلا عن قول الإمام (عليه السلام) الذي هو إخبار عن موضوع ، يكون إخباراً عن الحكم الكلّي ، ويكون حجّة على المجتهد ، وربما يكون بتوسّط حدس المجتهد الذي هو حجّة عليه أيضاً .
وبالجملة : الإخبار عن الاجتهاد كالإخبار عن قول الإمام (عليه السلام) ، ودلالتهما على الحكم بالالتزام إنّما يكون بتوسّط الحدس ، غاية الأمر أنّ الحدس في الثاني من المجتهد وحجّة عليه ، والحدس في الأوّل من المجتهد وحجّة على العامي المقلّد له . وعلى هذا المبنى يكفي توثيق رجال السّند بخبر الثقة ، وكذا في إثبات المعنى بإخبار اللغوي الثقة(1) .
- (1) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 38 ـ 39 .
(الصفحة 500)
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ أدلّة حجّية خبر الواحد لا دلالة لها على حجّية الخبر في خصوص الأحكام الكلّية ، حتى تصل النوبة إلى البحث عن أنّ إخبار الثقة بالاجتهاد هل يكون مشمولا لعمومها أم لا ؟ فإنّ عمدتها هي السيرة العقلائية الجارية على العمل بخبر الثقة ، ومن الواضح كما عرفت أنّه لا فرق في جريان السيرة بين ما إذا كان المخبر به حكماً أو موضوعاً ، بل مورد آية النبأ(1) هو الإخبار بالموضوع الخارجي ; وهو ارتداد بني المصطلق(2) .
وعليه : فلابدّ من البحث في ثبوت المانع عن شمول الأدلّة لخبر الثقة في الموضوعات الخارجيّة ، لا في وجود المقتضى للاعتبار وعدمه ، وقد عرفت ثبوت المانع ; وهي موثقة مسعدة بن صدقة الدالّة على الرّدع وعدم الاكتفاء بالواحد بدلا عن الاثنين ، وبالوثاقة بدلا عن العدالة ـ :
أوّلا : أنّ مجرّد الإخبار عن الاجتهاد لا يكون إخباراً عن الحكم الكلّي الإلهي ولو بنحو المدلول الالتزامي ; فإنّ الاجتهاد بمجرّده الذي يرجع إلى ثبوت الملكة وتحقّق القدرة لا يلازم الحكم ما لم يتحقّق منه الاستنباط خارجاً ; فإنّه يمكن أن لا يتحقّق من المجتهد استنباط أصلا وإن كانت الملكة موجودة له ، وعليه : فكيف يكون مجرّد الإخبار عن الاجتهاد إخباراً عن الحكم الإلهي؟ وكيف يمكن دعوى ثبوت الملازمة وتحقّق المدلول الالتزامي؟ كما هو غير خفيّ .
وثانياً : يكفي في الفرق بين الإخبار عن الاجتهاد ، وإخبار زرارة مثلا عن قول الإمام (عليه السلام) أنّ إخبار زرارة يكون إخباراً عن الحكم وحاكياً له بحيث لا يرى الموضوع الخارجي ـ وهو قول الإمام (عليه السلام) ـ واسطة أصلا . وأمّا الإخبار عن الاجتهاد فلا يتجاوز عن المخبر به ، ولا يعدّ إخباراً عن الحكم بوجه ، وكيف يكون
- (1) سورة الحجرات 49 : 6 .
(2) مجمع البيان : 9 / 196 ، أنوار التنزيل : 2 / 408 ، تفسير كنز الدقائق : 9 / 589 .
(الصفحة 501)
إخباراً عن الحكم مع أنّه ربما لا يكون المخبر عالماً بوجود رسالة لمن يخبر عن اجتهاده ، فضلا عن الأحكام الموجودة فيها؟ فالإنصاف أنّ إقامة الدليل على اعتبار خبر الثقة في الموضوعات الخارجيّة من هذا الطريق مشكلة لو لم تكن ممنوعة ، كما عرفت .
الأمر الثاني : الظاهر أنّ حجّية البيّنة إنّما هي بعنوان كونها من الأمارات الشرعيّة ; لأنّ اعتبارها عند العقلاء إنّما يكون بهذا العنوان ، والظاهر أنّ الشارع قد عامل معها معاملة العقلاء ، فاعتبارها في الشرع أيضاً يكون بعنوان الأمارة .
وعلى هذا ، فلو وقع التعارض بين البيّنة وبين الاُصول الموضوعيّة ; كما إذا كان مقتضى الاستصحاب بقاء خمريّة المائع المشكوك ، وقامت البيّنة على كونه خلاًّ ، أو كان مقتضى قاعدة الفراغ ـ بناءً على كونها من الاُصول ـ البناء على الصّحة مع الشك في الإتيان بالجزء أو الشرط أو ترك المانع أو القاطع ، ولكن قامت البيّنة على الإخلال بما يعتبر وجوده ، وعلى إتيان ما يعتبر عدمه ، ولم يكن هناك ما يدلّ على الصحّة كذلك ، مثل قاعدة : «لا تعاد» في الصلاة ، فمقتضى تقدّم الأمارات على الاُصول وحكومة الاُولى على الثانية ـ كما قد حقّق في الاُصول ـ لزوم الأخذ بالبيّنة والحكم بالخلّية في المثال الأوّل ، وبالبطلان في الثاني .
وأمّا لو وقع التعارض بين البيّنة وبين اليد ، فلا إشكال في تقديمها على اليد ; لأنّ عمدة تشريعها في باب التنازع والتخاصم إنّما هو لإبطال التمسّك باليد ; فإنّ العمدة في تشخيص المدّعي إنّما هي لأجل كونه مدّعياً في مقابل ذي اليد ومريداً لأخذ ما في يده منه ، وصاحب اليد ينكر ويدّعي كونه مال نفسه ، فالأخذ بالبيّنة ابتداءً ـ لقوله (صلى الله عليه وآله) : البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر(1) ـ إنّما هو لأجل تقدّم البيّنة على اليد ، وإلاّ فلو كانت البيّنة في عرض اليد أو متأخّرة عنها ، لايبقى مجال
(الصفحة 502)
لتقديم البيّنة والقضاء بنفع المدّعي إذا كانت له بيّنة .
وأمّا تعارضها مع سوق المسلم الذي هو أمارة على التذكية والحلية ; كما إذا اشترى لحماً من سوق المسلمين وقامت البيّنة على عدم كونه مذكّى ، وأنّه محرّم ، فربما يقال : إنّ تقديم البيّنة على السّوق من الواضحات والمسلّمات ، ولعلّ الوجه فيه أنّ ملاحظة أدلّة اعتبار السّوق وأماريّته تقضي بأنّ موردها ما إذا لم يكن هناك أمارة على خلافه ، وكانت التذكية مشكوكة من رأس . وأمّا أدلّة اعتبار البيّنة فلا تكون كذلك ، فراجع .
وأمّا لو وقع التعارض بين البيّنة وبين الإقرار ، كما إذا أقرّ بأنّ ما في يده لزيد مثلا ، وقامت البيّنة على كونه للمقرّ دون زيد ، فمقتضى القاعدة تساقط الأمارتين ، ولكنّ الظاهر أنّ بناء العرف والعقلاء على تقديم الإقرار ، ولعلّ الوجه فيه اختصاص كاشفية البيّنة عندهم بصورة عدم الإقرار ، وأنّه مع وجوده لا يرون الكاشف إلاّ الإقرار ، فالإقرار عندهم بمنزلة العلم الذي لا مجال للبيّنة مع وجوده على خلافها .
ولكن وردت روايات في باب القتل في أنّه إذا قامت البيّنة على أنّ زيداً مثلا قاتل ، ثمّ أقرّ عمرو بأنّه القاتل ، يكون للوليّ الأخذ بأيّة واحدة مع الأمارتين ، وقتل أيّ واحد منهما(1) ، وقد عملوا بها وأفتوا على طبقها(2) ، ولكنّ الظاهر أنّه خلاف القاعدة يجب الأخذ به لوجود النصّ .
ولو وقع التعارض بين البينتين ، فمقتضى القاعدة تساقط الأمارتين وعدم ثبوت حجّة في البين ، من دون فرق بين أن تكون هناك مزيّة من جهة الكمية أو
- (1) الكافي : 7 / 289 ح 1 ، تهذيب الأحكام : 10 / 172 ح 677 ، الفقيه : 4 / 78 ح 244 ، وعنها وسائل الشيعة : 29 / 141 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب 3 ح 1 ، وانظر وسائل الشيعة : 29 / 142 ب 4 ومستدرك الوسائل : 18 / 264 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل ب 3 و 4 .
(2) رياض المسائل : 14 / 105 ـ 106 ، جواهر الكلام : 42 / 206 .