(الصفحة 537)
الخصومة بالمعنى المصدري ; وهو الحكم والقضاء ، لا كون الخصومة مفصولة ، والدليل على ذلك مراجعة كتاب القضاء ; فإنّ الأحكام المذكورة فيه إنّما تكون مترتّبة على نفس القضاء .
ومنها : أنّ الظاهر من تعلّق الوجوب بشيء كون المطلوب إتيانه مجّاناً وبلا عوض ، فأخذ الاُجرة عليه ينافي ذلك(1) .
ويرد عليه : منع ذلك ; لأنّه مجرّد إدّعاء بلا بيّنة وبرهان .
ومنها : أنّ المعهود في باب الإجارة كون العمل الذي استؤجر عليه بيد المستأجر من حيث الإسقاط والإبراء والتأجيل والتعجيل ، ولو قيل بصحّة الإجارة في المقام يلزم نفي تلك الآثار الثابتة في كلّ إجارة ، فيستكشف من ذلك بطلانها(2) .
ويرد عليه : منع انتفاء هذه الآثار في الإجارة على الواجب ، فإنّه يمكن للمستأجر الإسقاط ويسقط حقّه بذلك ، ولا ينافي ذلك ثبوت حقّ من الله تعالى ، وتظهر الثمرة فيما لو لم يكن المكلّف مريداً لإطاعة أمر الله تعالى ; فإنّه يستحقّ الاُجرة مع الإسقاط .
ومنها : ما عن الشيخ الأعظم (قدس سره) في مكاسبه من أنّ عمل المسلم مال ، لكنّه غير محترم مع الوجوب ، لكون العامل مقهوراً عليه من دون دخل إذنه ورضاه ، فالإيجاب مسقط لاعتبار إذنه ورضاه المتقوّمين لاحترام المال(3) .
وأجاب عنه المحقق الإصفهاني (قدس سره) بأنّ لمال المسلم حيثيتين من الاحترام :
أحداهما : حيثية أضافته إلى المسلم ، وهذه الحيثية يقتضي احترامها أن لا
- (1) اُنظر تكملة التبصرة للمحقّق الخراساني : 116 .
(2) شرح القواعد ، كتاب المتاجر : 1 / 279 ـ 280 .
(3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 2 / 135 .
(الصفحة 538)
يتصرّف أحد فيه بغير إذنه ورضاه ، وله السلطان على ماله ، وليس لأحد مزاحمته في سلطانه ، وهي الثابتة بقوله (عليه السلام) : لا يجوز(1) لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه(2) ، وبقوله (عليه السلام) : لا يحلّ مال امرىء إلاّ عن طيب نفسه(3) .
ثانيتهما : حيثيّة ماليّته ، ومقتضى حرمتها أن لا يذهب هدراً وبلا تدارك ، فلا يجوز أن يعامل مع مال المسلم معاملة الخمر والخنزير ممّا لا ماليّة له شرعاً ، ولا يتدارك بشيء أصلا .
ومن الواضح أنّ الإيجاب واللاّبدية والمقهورية وسقوط إذنه ورضاه كلّها موجبة لسقوط احترام العمل من الحيثية الاُولى دون الحيثية الثانية ، ولذا جاز أكل مال الغير في المخمصة من دون إذنه مع بقاء المال على حاله من احترامه ، وتضمن قيمته بلا إشكال ، مع أنّ هدر المال غير هدر الماليّة كما في مال الكافر الحربي ; فإنّه ساقط الاحترام من الجهتين ، فيجوز أخذه منه وتملّكه بغير عوض بدون إذنه ، ومع ذلك فهو مال ومملوك للحربي ، ولذا يجوز إيقاع المعاملة عليه واستئجاره على عمله ، وما يضرّ بالإجارة هدر الماليّة لا هدر المال(4) .
ومنها : غير ذلك من الوجوه الضعيفة غير التامّة ، فالمتحصّل في هذا المقام أنّ الوجوب بما هو وجوب لا ينافي جواز أخذ الاُجرة ، ولم يقم دليل على عدم جواز الاستئجار على الواجب بما هو كذلك .
المقام الثاني : في منافاة العباديّة للإجارة وعدمها .
- (1) كذا في بحوث في الفقه والمخطوط، ولكن في الكمال والاحتجاج والوسائل : لا يحلّ .
(2) كمال الدين : 521 قطعة من ح 49 ، الاحتجاج : 2 / 559 قطعة من رقم 351 ، وعنهما وسائل الشيعة : 9 / 541 ، كتاب الخمس ، أبواب الأنفال ب 3 ح 7 .
(3) عوالي اللئالي : 2 / 113 ح 309 و ج 3 / 473 ح 1 ، وعنه مستدرك الوسائل : 3 / 331 ، كتاب الصلاة ، أبواب مكان المصلّي ب 3 ح 3 كلّ باختلاف يسير .
(4) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 196 ـ 198 .
(الصفحة 539)
فنقول: ربما يقال بالمنافاة ; نظراً إلى أنّ أخذ الاُجرة على العبادات ينافي القربة المعتبرة فيها ، فلا يجوز ; لأنّه مع الأخذ لا يقدر على الإتيان بمتعلّق الإجارة ، والقدرة عليه معتبرة في صحّتها بلا إشكال .
وقد تفصّي عنه بوجهين :
الأوّل : ما حكي عن صاحب الجواهر (قدس سره) من أنّ تضاعف الوجوب بسبب الإجارة لا ينافي الإخلاص ، بل يؤكّده(1) .
وقد اُورد عليه بأنّه إن اُريد أنّ تضاعف الوجوب يؤكّد اشتراط الإخلاص ، فلا ريب في أنّ الأمر الإجاري توصليّ لا يشترط في حصول ما وجب به قصد القربة . وإن اُريد أنّه يؤكّد تحقّق الإخلاص من العامل ، فهو مخالف للواقع قطعاً ; لأنّ ما لا يترتّب عليه أجر دنيوي أخلص ممّا يترتّب عليه ذلك بحكم الوجدان(2) .
ولكنّ السيّد الطباطبائي (قدس سره) تصدّى في حاشية مكاسب الشيخ الأعظم (قدس سره) لتوجيه كلام صاحب الجواهر ، وبيان عدم المنافاة بين قصد القربة وأخذ الاُجرة ، وقد ذكر في تقريره وجهين :
أحدهما : هي مسألة الدّاعي على الدّاعي التي ستجيءمفصلاإن شاءالله تعالى .
ثانيهما : ما ملخّصه : أنّه يمكن أن يقال بصحّة العمل من جهة امتثال الأمر الإجاري المتّحد مع الأمر الصلاتي ، فإنّ حاصل قوله : «فِ بإجارتك» ، صلِّ وفاءً للإجارة . ودعوى كونه توصّلياً ، مدفوعة .
أوّلا : بأنّ غايته أنّه لا يعتبر في سقوطه قصد القربة ، وإلاّ فإذا أتى بقصد الامتثال يكون عبادة قطعاً ، ولذا قالوا : إنّ العبادة قسمان : عبادة بالمعنى الأخصّ ، وعبادة بالمعنى الأعمّ ، ودعوى أنّ المعتبر قصد الأمر الصلاتي لا الأمر الإجاري ،
- (1) جواهر الكلام : 22 / 117 .
(2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 2 / 127 .
(الصفحة 540)
مدفوعة بالمنع ، غاية الأمر أنّه يعتبر فيه كون الدّاعي هو الله من أيّ وجه كان .
وثانياً : لا نسلّم كونه توصّلياً مطلقاً ، بل هو تابع لمتعلّقه ، فإن كان توصّلياً فهو توصّلي ، وإن كان تعبّدياً فتعبديّ ; لأنّ مرجع قوله تعالى : {أَوفُوا بِالْعُقُودِ}(1)إلى قوله : صلّوا وصوموا وخيطوا وافعلوا كذا وكذا ، فالأمر الإجاري عين الأمر الصلاتي ، ألا ترى أنّه لو لم يكن له داع إلى امتثال الأمر الندبي بالنافلة ونذرها ، وكان داعيه امتثال الأمر النذري كان كافياً في الصّحة .
والحاصل : أنّ امتثال الأمر المتعلّق بالعمل من جهة وجوب الوفاء بالإجارة كاف في الصّحة .
إن قلت : إنّ ذلك مستلزم للدّور ; لأنّ الوجوب من حيث الإجارة موقوف على صحّتها ، وهي موقوفة على صحّة العمل ، الموقوفة على عدم الوجوب ; لتوقّف قصد القربة المعتبرة فيه عليه .
قلت : التحقيق في الجواب أن يقال : إنّ المعتبر في متعلّق الإجارة ليس أزيد من إمكان إيجاده في الخارج في زمان الفعل ، وفي المقام كذلك ، غاية الأمر أنّ تعلّق الإجارة والأمر الإجاري سبب في هذا الإمكان ، وهذا ممّا لا مانع منه ، وحينئذ نقول : إنّ الوجوب من حيث الإجارة موقوف على صحّتها ، وهي موقوفة على القدرة على إيجاد الفعل صحيحاً في زمان الفعل ، وهي حاصلة بالفرض ، وإن لم تكن حاصلة مع قطع النظر عن تعلّق الإجارة .
والحاصل : أنّه لا يلزم في صحّة الإجارة إلاّ إمكان العمل ولو بسببها ، وأمّا الإمكان مع قطع النظر عنها فلا دليل على اعتباره(2) .
أقول : لا يخفى أنّ الأمر الإجاري لا يعقل أن يكون متّحداً مع الأمر الصلاتي ،
- (1) سورة المائدة 5: 1 .
(2) حاشية المكاسب للسيّد اليزدي : 1 / 136 ـ 139 .
(الصفحة 541)
كيف؟ وعنوان الوفاء بالإجارة مغاير لعنوان الصلاة ، والنسبة بينهما العموم من وجه ، ولا يعقل أن يسري الأمر من متعلّقه إلى شيء آخر مغاير له ، ومجرّد اتّحاد الوفاء مع الصلاة خارجاً لا يوجب اتّحاد الأمرين ، بعد وضوح أنّ متعلّق الأحكام والتكاليف هي نفس الطبائع والعناوين ـ كما حقّقناه في الاُصول(1) ـ . وحينئذ فكيف يعقل أن يكون الأمر بالوفاء داعياً إلى الصلاة ، مع أنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه؟ فتصحيح العبادية بإتيان الصلاة بداعي الأمر المتعلّق بالوفاء بالإجارة ممّا لا يتمّ أصلا .
وتنظير ذلك بمسألة النذر وإن كان في محلّه ، إلاّ أنّ كفاية الإتيان بداعي امتثال الأمر النّذري فيها محلّ نظر ، بل منع ، بل الظاهر فيها أيضاً لزوم الإتيان بالنافلة بداعي الأمر الاستحبابي المتعلّق بها ، إِذ النذر لا يوجب انقلاب النافلة فريضة ، فلو نذر الإتيان بصلاة الليل مثلا يصير ذلك موجباً للزوم الإتيان بها بما أنّها صلاة اللّيل ، وتكون متعلّقة للامر الأستحبابي ، ولذا لو حصل منه خلف النذر يعاقب لا على ترك صلاة الليل ; لأنها مستحبة ، بل على عدم الوفاء بالنذر الذي كان واجباً .
وبالجملة : لا وجه لكفاية الإتيان بقصد امتثال الأمر الإجاري بعد وضوح عدم اتّحاده مع الأمر الصلاتي لاختلاف متعلّقيهما . ومنه ظهر فساد ما ذكره من تبعيّة الأمر الإجاري من حيث التعبدية والتوصلية لمتعلّقه ; فإنّه لا يسري إليه حتّى يكتسب منه ذلك كما عرفت ، مضافاً إلى أنّ معنى الوفاء بالإجارة هو الإتيان بالعمل بما أنّه مستحق للغير ومملوك له ، فلا يجتمع مع الإتيان به بداعي القربة ، فتأمّل . وكيف كان ، فالإشكال لا يندفع بما ذكره ; لابتنائه على اتّحاد الأمرين ، وقد عرفت منعه .
الثاني : ما اختاره جمع من المحققين من كون الاُجرة داعية ، لا في عرض داعي
- (1) اصول فقه شيعة : 5 / 151 ـ 156 .