(الصفحة 542)
القربة ، بل في طوله(1) ، وتقريره كما أفاده السيّد (قدس سره) في حاشية المكاسب ـ مع توضيح منّا ـ أن يقال : إنّ ما يضرّ بالإخلاص إنّما هو الداعي الدنيوي الذي هو في عرض داعي الامتثال ، كالرياء وسائر الدواعي النفسانيّة . وأمّا إذا كان في طوله ، كما في مثل المقام ; بأن كان الداعي على نفس العمل هو امتثال الأمر المتعلّق به ، والداعي على إتيان العمل بداعى امتثال أمره غرض آخر دنيويّ أو اُخرويّ لا يرجع إلى الله تعالى ، فلا بأس به ; لأنّه لا دليل على لزوم أن تكون سلسلة العلل كلّها راجعة إلى الله ، كيف؟ ولازمه الحكم ببطلان عبادة جلّ الناس بل كلّهم عدا من عصمه الله تعالى منهم ; لأنّ داعيهم إلى امتثال أوامر الله إنّما هو الخوف من العقاب أو الطمع في الثواب ، وهما ـ أي الثواب والعقاب ـ وإن كانا من الاُمور الاُخرويّة ، إلاّ أنّهما يشتركان مع المقاصد الدنيوية في أنّه لا يرجع شيء منهما إلى الله تعالى(2) .
ودعوى أنّ قياس الاُجرة على الغايات المترتّبة بجعل إلهيّ مع الفارق ; لأنّ سلسلة العلل إذا انتهت إلى الله تعالى فلا تُخرج المعلول عن كونه عباديّاً . وهذا بخلاف ما إذا انتهت إلى غيره ; فإنّه ليس من وظيفته جعل غاية للفعل بقصد الأمر ، وبالجملة : فرق بين أن يأتي بالصلاة لأمر الله سبحانه حتى يوسّع في رزقه ، وأن يأتي لأمر الله حتى يأخذ الاُجرة(3) .
مدفوعة بمنع انتهاء سلسلة العلل في عبادات العامّة إلى الله تعالى ; لأنّ الجنّة مطلوبة لهم بما أنّها جنّة مشتملة على النعم الّتي لا تعدّ ولا تحصى ، لا بما أنّها مخلوقة لله تعالى ولها إضافة إليه ، والنار مبغوضة لهم بذاتها ، فإتيان الصلاة لأمر الله لأجل التوسعة في الرّزق لا ينتهي إلى الله أصلا ; لأنّ محبوب النفس هي نفس التوسعة من
- (1) هداية الطالب إلى أسرار المكاسب : 116 ، بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 218 ـ 224 ، المقام الثاني ، المستند في شرح العروة الوثقى ، كتاب الإجارة : 30 / 379 ـ 382 ، المقام الثاني .
(2) حاشية المكاسب للسيّد اليزدي : 1 / 136 .
(3) منية الطالب في شرح المكاسب : 1 / 51 .
(الصفحة 543)
حيث هي ، مع قطع النظر عن كونها بيد الله تعالى .
وبالجملة : الجنّة محبوبة والنّار مبغوضة بما أنّهما جنّة ونار ، كيف؟ ولو كان المحبوب هي الجنّة بما أنّها من نعم الله تعالى ، ولها إضافة إليه ، بحيث كان مرجعه إلى محبوبيّته تعالى ، لكان اللازم الإتيان بالواجبات ولو لم يترتّب على فعلها دخول الجنّة ، أو ترتّب دخول النّار ، ولا نرى من أنفسنا ذلك أصلا .
والحاصل : أنّ الدّاعي إلى العبادة في أكثر النّاس بل جميعهم إلاّ القليل منهم ، هو نفس الطمع في الجنّة بما أنّ فيها جميع المشتهيات ، أو الخوف من العقاب بما أنّ في النّار خلافها ، وحينئذ لا يبقى فرق بينهما ، وبين المقاصد الدنيوية أصلا ، فاللازم هو الالتزام بكفاية توسّط الامتثال وإن كان الباعث عليه هو الغرض الدنيوي أو الاُخروي ، الذي لا يرجع إلى الله تعالى ، وإلاّ انحصرت العبادة في ما كان من أمير المؤمنين (عليه السلام) (1) وغيره ممّن لا يرون إلاّ أهلية المعبود للعبادة .
ودعوى أنّه مع أخذ الاُجرة لا يتوسّط الامتثال أيضاً ، مدفوعة بالمنع ; فإنّ المكلّف بعد علمه بأنّ ملكية العوض تتوقّف على الإتيان بالعمل الصحيح ، وهو يتوقف على قصد الامتثال ، فلا محالة يقصده ، كما أنّه إذا علم أنّ الجنّة موقوفة على ذلك يقصده كذلك .
وأمّا ما عن الشهيد الأوّل (قدس سره) في قواعده من قطع الأصحاب ببطلان العبادة إذا اُتي بها بداعي الثواب أو دفع العقاب(2) ، فالظاهر أنّ مراده ما إذا كانت الغاية المذكورة غاية لنفس العمل لا للعمل المأتيّ به بداعي الأمر ، كيف؟ وقد عرفت أنّ الغاية في عبادات غالب الناس هي ما ذكر ، فالمراد ما ذكرنا ، والوجه في البطلان عدم ترتّب الثواب على ذات العمل ، ولا يدفع به العقاب .
- (1) شرح نهج البلاغة للبحراني : 5 / 361 ، وعنه بحار الأنوار : 41 / 14 ، ورواه في ج 70 / 186 مرسلا .
(2) القواعد والفوائد : 1 / 77 .
(الصفحة 544)
فالتحقيق في الجواب عن منافاة العبودية لأخذ الاُجرة ما ذكرنا من الوجه الثاني ، الذي ملخّصه يرجع إلى ثبوت الطوليّة ونفي العرضية ، فتدبّر .
وربما يقال في بيان المنافاة أيضاً : إنّ دليل صحّة الإجارة هو عموم {أُوفُوا بِالعُقُودِ}(1) ، ويستحيل شموله للمقام ; لأنّ الوفاء بالشيء عبارة عن إتمامه وانهائه ، فالوفاء بعقد الإجارة هو الإتيان بالعمل المستأجر عليه أداءً لحقّ المستأجر ، ومن الواضح أنّ هذا لا يجتمع مع الإتيان به أداءً لحقّ الله وامتثالا لأمره ، فلا يعقل اجتماعهما في محلّ واحد(2) .
وفيه ـ مضافاً إلى عدم انحصار دليل صحّة الإجارة بالآية المذكورة ، بل يدلّ عليها آية «التجارة عن تراض»(3) أيضاً ـ : أنّ الوفاء بالعقد لا يتوقّف على عنوان خاصّ ، بل يكفي فيه إيجاد متعلّق العقد في الخارج فقط بأيّ نحو اتّفق ، بل لا يلزم أن يكون الأجير مباشراً للإيجاد ; فإنّه يكفي في حصول الوفاء الموجب لاستحقاق الاُجرة حصوله من المتبرّع بقصد التبرّع عن الأجير ، كما ثبت في محلّه من كتاب الإجارة(4) ، فالمراد من الوفاء هو حصول المتعلّق في الخارج مضافاً إلى الأجير ، ولا يتوقّف على عنوان خاصّ أصلا .
المقام الثالث : في منافاة الوجوب التعبّدي النيابي لأخذ الاُجرة وعدمها ، فنقول :
التحقيق : أنّ ما يمكن أن يقع مورداً للبحث في هذا المقام ـ بعد الفراغ عن المقامين المتقدّمين ـ هي صحّة النيابة عن الغير في الأعمال العباديّة ولو لم تكن اُجرة في البين ; لأنّه مع فرض الصحّة والمشروعية لا يبقى مجال للنزاع في جواز أخذ
- (1) سورة المائدة 5 : 1 .
(2) مصباح الفقاهة : 1 / 465 .
(3) سورة النساء 4 : 29 .
(4) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة ، كتاب الإجارة : 503 .
(الصفحة 545)
الاُجرة ـ بعد ما ثبت في المقام الأوّل أنّ الوجوب بما هو وجوب لا ينافي جواز أخذها ، وفي المقام الثاني أنّ العباديّة بما هي كذلك لا ينافيها ـ ضرورة أنّ النيابة إن كانت توصليّة ، وفرض وجوبها لجهة ، فلا مانع من الاستئجار عليها ، وإن كانت غير توصلية بل تعبدية ، فهي أيضاً كذلك ، فمدار البحث في هذا المقام هو أصل صحّة النيّابة وعدمها ، ولا وجه للنزاع في أنّ الاُجرة فيها في مقابل أيّ شيء ، كما لا يخفى .
إذا عرفت ذلك نقول : النيابة في العبادات الواجبة والمستحبّة ممّا دلّ عليه ضرورة الفقه نصّاً وفتوى . وقد عقد في الوسائل باباً لاستحباب التطوّع بجميع العبادات عن الميّت(1) . وقد ورد الأمر الاستحبابي بالنيابة عن الحيّ في بعض الموارد(2) .
وربما يؤيّد ذلك ما ورد في شأن بعض الواجبات الإلهيّة من أنّه دين الله(3) ، أو من التعبير الظاهر في هذه الجهة ، كقوله تعالى : {وَلِلَّهِ عَلَى اْلنَّاسِ حِجُّ البَيْتِ}(4)وغيره ، بضميمة أنّ الاعتبار في باب دين الخلق أنّه كما أنّ المديون له السلطنة على إفراغ ذمّته من الدين ، وجعل الكلّي المتعلّق بعهدته مشخّصاً في فرد يدفعه إليه بعنوان أداء الدين ، كذلك هذه السلطنة ثابتة لغير المديون ; فإنّ له أن يفرّغ ذمّته بأداء دينه تبرّعاً ، وجعلت له هذه السّلطنة أيضاً ، فيمكن له أن يجعل الكلّي المتعلّق
- (1) وسائل الشيعة : 8 / 276 ، كتاب الصلاة ، أبواب قضاء الصلوات ب 12 .
(2) وسائل الشيعة : 11 / 196 كتاب الحج ، أبواب النيابة ب 25 وغيره .
(3) مسند أحمد بن حنبل : 1 / 489 ح 2005 ، صحيح البخاري : 2 / 298 ، كتاب الصوم ب 42 ح 1953 ، صحيح مسلم : 2 / 661 ، كتاب الصيام ب 27 ح 154 و 155 ، سنن أبي داود : 514 ، كتاب الأيمان والنذور ب 26 ح 3310 ، سنن الدارقطني : 2 / 176 ، كتاب الصيام ح 2314 و 2315 ، سنن الكبرى للبيهقي : 6 / 301 ح 8316 و 8317 ، مشكاة المصابيح : 1 / 456 ، كتاب المناسك ، الفصل الأوّل ح 2512 ، بحار الأنوار : 88 / 308 و 315 ـ 316 .
(4) سورة آل عمران 3: 97 .
(الصفحة 546)
بعهدة المديون مشخّصاً في فرد يدفعه بذلك العنوان إلى الدائن ، فيقال في العرف : إنّه قضى عن فلان دينه ، وهكذا في باب دين الخالق ; حيث إنّه لا فرق بينه وبين دين الخلق من هذه الجهة .
وبالجملة : لا إشكال في مشروعيّة النيابة في العبادة في الجملة في الشريعة ، وهذا يكفي لنا في هذا المقام وإن لم نقدر على تصويرها بحيث تنطبق على القواعد ، إلاّ أن يقال بالاستحالة ; فإنّها توجب صرف الأدلّة الظاهرة في المشروعية عن ظاهرها ، ولأجله لابدّ من البحث في هذه الجهة ، فنقول :
ربما يقال بالاستحالة ; نظراً إلى أنّ التقرّب اللازم في العمل العبادي غير قابل للنيابة ، فتقرّب النائب يوجب قرب نفسه لا قرب المنوب عنه ، فالقرب المعنوي كالقرب الحسّي ، فإنّ تقرّب شخص من شخص مكاناً يوجب قربه منه ، لا قرب غيره ، وإن قصده ألف مرّة .
كما أنّه ربما يقال بها ; نظراً إلى أنّ النائب لا أمر له بذات العمل ، فلا يمكنه التقرّب ، وأوامر النيابة توصّلية ، وعلى فرض تقرّب النائب بأمر النّيابة فهو تقرّب له بالإضافة إلى أمر نفسه ، لا بأمر المنوب عنه المتعلّق بالمنوب فيه .
واُجيب عن الوجه الثاني بوجوه :
منها : ما حكي عن بعض الأعلام في كتاب القضاء من أنّ النيابة من الاُمور الاعتبارية العقلائية التي لها آثار عند العقلاء ، فإذا كانت ممضاة شرعاً كان مقتضاها ترتّب تلك الآثار عليها ، وإلاّ فلا معنى لإمضائها ، فكما أنّ الضمان أمر اعتباري عقلائي ، وفائدته صيرورة الضامن بمنزلة المضمون عنه ، وصيرورة ما في ذمّة المضمون عنه ديناً على الضامن ، كذلك إذا كان المنوب فيه من العبادات ، فإنّ معنى ترتّب فائدة النيابة الاعتبارية عليها شرعاً توجّه تكليف المنوب عنه إلى النائب ; إذ لا معنى للمنزلة إلاّ ثبوت ما كان على المنوب عنه في حق النائب من