فلابدّ من البحث عن هذه الاُمور الثلاثة.
بحيث لم تتجاوز مسائلها عدد الأصابع، فتكاملت بمرور الأزمنة حتّى صارتما بأيدينا اليوم.
ويشهد له ما نقله الشيخ الرئيس(1) عن المعلّم الأوّل(2) في تدوين المنطقمن أنّا ما ورثنا عمّن تقدّمنا في الأقيسة إلاّ ضوابط غير مفصّلة، وأمّا تفصيلهوإفراد كلّ قياس بشروطه فهو أمر قد كددنا فيه أنفسنا، ويمكن أن يزيد عليهمن يأتي بعدنا مباحث اُخرى أو يزيلوا عيوب آرائنا(3).
وفيه: أنّ قلّة مسائل العلوم في بدو تدوينها وتطوّرها بمرور الأزمنة وإنكانت أمراً مسلّماً إلاّ أنّها لا تنافي احتياجها إلى الموضوع لو دلّ عليه دليل،فالآن لابدّ لنا من ملاحظة أدلّة افتقارها إليه، وهي وجوه:
مسلك المشهور في المقام
الأوّل: ما تمسّك به المشهور لإثبات وحدة موضوع العلم،لأنّها لو ثبتتلثبت افتقار العلم إلى الموضوع أيضاً، لأنّ ثبوت وحدته فرع ثبوت نفسه.
وبيان دليلهم يحتاج إلى ذكر مقدّمتين:
الاُولى: أنّ كلّ علم يترتّب عليه غرض واحد، فإنّ الغرض من علم النحو«حفظ اللسان عن الخطأ في المقال»، ومن علم المنطق «صيانة الإنسان عنالخطأ في الفكر»، ومن علم اُصول الفقه «القدرة على استنباط الأحكامالفرعيّة الإلهيّة» وهكذا سائر العلوم، فكلّ علم يترتّب عليه فائدة واحدة.
الثانية: أنّ لنا قاعدة فلسفيّة، وهي أنّ «الواحد لا يصدر إلاّ من
- (1) راجع شرح المنظومة، قسم المنطق: 6.
- (2) المعلّم الأوّل: لقب أرسطو. م ح ـ ى.
(صفحه16)
الواحد»(1)، فيمتنع أن يؤثّر الأمران المتباينان اللذان لا جامع بينهما في أمرواحد، فتأثير الشمس والنار في الحرارة مثلاً كاشف عن وجود جامع بينهمهو المؤثّر فيها لا محالة، وهذه القاعدة تسالم عليها جلّ المحقّقين، وأقاموالبرهان عليها.
إذا عرفت هاتين المقدّمتين، فنقول:
كلّ علم عبارة عن مجموع مسائله، وهي مؤثّرة في الغرض، مثلاً علم النحوعبارة عن «كلّ فاعل مرفوع، كلّ مفعول منصوب، كلّ مضاف إليه مجرور»وسائر المسائل، وهي توجب الوصول إلى الغرض الذي هو «صون اللسانعن الخطأ في المقال»، فلابدّ من تصوّر جامع واحد بين المسائل يكون مؤثّرفي الغرض واقعاً.
وحيث إنّ كلّ مسألة مركّبة من موضوع(2) ومحمول ونسبة بينهما، فالجامعالمؤثّر في الغرض بحسب التصوّر البدوي إمّا منتزع من الموضوعات أوالمحمولات أو النسب، ولكنّه بحسب الدقّة لا يمكن انتزاعه من المحمولات، لأنّالمحمول عارض على الموضوع ومتأخّر عنه، والموضوع معروض متقدّم عليهرتبةً، فلا يصلح المحمولات لانتزاع الجامع منها.
ومن هنا انقدح عدم صلاحيّة النسب أيضاً لذلك، لأنّها معانٍ حرفيّة غيرمستقلّة أوّلاً، ومتأخّرة عن الموضوعات والمحمولات ثانياً، فكيف يمكن انتزاعالجامع منها؟!
- (1) لهذه القاعدة طرف آخر، وهو أنّ «الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد»، لكنّه لا يرتبط بالمقام. منه مدّ ظلّه.
- (2) تختلف المسألتان أو أكثر من علم واحد، إمّا موضوعاً ومحمولاً، مثل «الفاعل مرفوع والمفعولمنصوب»، أو موضوعاً فقط، مثل «الفاعل مرفوع والمبتدأ مرفوع»، أو محمولاً فقط، مثل «الفاعل مرفوعوالفاعل مقدّم على المفعول». منه مدّ ظلّه.