(صفحه136)
خصائص الممكنات، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً.
إذا عرفت هذا فتبيّن لك أنّ الوضع أمر اعتباري جعلي، وهو اعتبارالارتباط بين اللفظ والمعنى، والاُمور الاعتباريّة كلّها مشتركة في أنّه لا حظّلها من الواقعيّة أصلاً، بل مقامها أدون من الحقائق الذهنيّة، كالكلّيّة والنوعيّةونحوهما العارضة على المفاهيم في الذهن، فإنّ لها واقعيّة ذهنيّة دونالاعتباريّات، ضرورة أنّك إذا صرت مالكاً لدار أو تزوّجت بامرأة لم يحصلبينك وبين تلك الدار أو الامرأة ارتباط واقعي نسمّيه بالملكيّة أو الزوجيّة،وكذلك الأمر في باب الوضع، فإنّك إذا سمّيت ولدك عليّاً مثلاً، لم يحصل بينلفظ «عليّ» وولدك ارتباط واقعي، بل أنت اعتبرت الارتباط بينهما فقط.فالاُمور الاعتباريّة التي منها الوضع ليس لها واقعيّة خارجيّة ولا ذهنيّة.
لكنّ بين الوضع وبين مثل الملكيّة والزوجيّة من الاعتباريّات العقلائيّةوالشرعيّة فرقاً، وهو أنّ الوضع ليس أمراً تسبيبيّاً، بل هو أمر مباشري قائمبالواضع، فإنّه يعتبر الارتباط بين اللفظ والمعنى بقوله: «وضعت هذا اللفظبإزاء ذلك المعنى» بخلاف مثل الملكيّة والزوجيّة، فإنّ المتبايعين والزوجينيجريان عقد البيع والنكاح، ونفس العقد كـ «بعت» و«زوّجت» لا يكونملكيّة أو زوجيّة، بل الملكيّة والزوجيّة أمران يعتبرهما الشارع والعقلاء(1)عقيب العقد.
فعمل المتعاقدين سبب للاعتبار الشرعي أو العقلائي، وعمل الواضع بنفسههو الاعتبار.
- (1) الاُمور الاعتباريّة بعضها تكون شرعيّة وعقلائيّة معاً، وفي بعضها يفارق الشارع العقلاء، فتكون عقلائيّةمثلاً لا شرعيّة، كملكيّة الخمر والخنزير. منه مدّ ظلّه.
ج1
ثمّ قال: لا فرق بين اللفظ والإشارة في كون الارتباط بينهما وبين المعنى أمراعتباريّاً، فإنّ الوجدان قاضٍ بأنّك إذا أشرت إلى زيد بإصبعك مثلاً فلنأمران واقعيّان:
أ ـ زيد، ب ـ توجيه إصبعك إليه بكيفيّة خاصّة، وأمّا دلالة هذا النحو منوضع الإصبع على أنّك تشير إلى زيد فلا واقعيّة لها أصلاً، لكنّ العقلاءاعتبروا أنّ من وجّه إصبعه بهذه الكيفيّة إلى شيء يريد تفهيمه والإشارة إليه،ولذا تختلف الإشارات باختلاف الأقوام والملل، لأجل تفاوت اعتبارهم.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى اللفظ والمعنى، إذ ليس بينهما ارتباط واقعيخارجي ولا ذهني، لكنّ الواضع يعتبر الارتباط بينهما بحيث يفهم المعنى عنداستعمال اللفظ(1).
هذا أصل مضمون كلام المحقّق الاصفهاني رحمهالله في حاشية الكفاية، وهو متينغاية المتانة.
إن قلت(2): نعم، هذا كلام متين، لكنّه معنى دقيق لا يدركه العرف الذي هوالواضع.
قلت: إنّ العرف وإن لم يدركه في قالب الاصطلاحات من «الاعتبار»و«التسبيب» و«المباشرة» ونحوها، إلاّ أنّه يفهم ويدرك أصل هذا المعنى، ألترى أنّا إذا سألنا من يجعل اسماً لولده عن فعله، يقول في الجواب: إنّي أجعللولدي اسماً ليسمّى به عند الحاجة؟ وهل اعتبار الارتباط بين اللفظ والمعنىإلاّ هذا؟!
- (2) هذا إشكال أورده المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» في المحاضرات 1: 50. م ح ـ ى.
(صفحه138)
والأمر في المعاملات أوضح، فإنّ العرف يفهم أنّه إذا قال: «بعتك هذهالدار» خرجت عن ملكه ودخلت في ملك المخاطب، وإذا وقع بينه وبين امرأةعقد النكاح تصير زوجته شرعاً، وأمّا كون الملكيّة والزوجيّة أمريناعتباريّين فلا يفهمه أصلاً، لكنّه لا يضرّ بدرك أصل المطلب.
والأمر كذلك في الوضع، فإنّ من سمّى ولده عليّاً يعرف أنّه لم يكن بين ولدهوبين هذا الاسم ارتباط قبلاً، ويفهم أيضاً أنّه لا يريد من التسمية إلاّ تفهيمولده بهذا الاسم، وهذا معنى الاعتبار.
كلام المحقّق الاصفهاني رحمهالله في وضع الدوالّ
ثمّ إنّه رحمهالله قال: لا شبهة في اتّحاد حيثيّة دلالة اللفظ على معناه وكونه بحيثينتقل من سماعه إلى معناه مع حيثيّة دلالة سائر الدوالّ، كالعلم المنصوب علىرأس الفرسخ، فإنّه أيضاً ينتقل من النظر إليه إلى أنّ هذا الموضع رأسالفرسخ، غاية الأمر أنّ الوضع فيه حقيقي، وفي اللفظ اعتباري، بمعنى أنّ كونالعلم موضوعاً على رأس الفرسخ خارجي، ليس باعتبار معتبر، بخلافاللفظ، فإنّه كأنّه وضع على المعنى ليكون علامة عليه، فشأن الواضع اعتباروضع لفظ خاصّ على معنى خاصّ(1)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه.
البحث حول نظريّة المحقّق الاصفهاني رحمهالله في وضع الدوالّ
وأورد على هذه الفقرة من كلامه بعض الأعلام في المحاضرات بأنّ وضعالعلم يتقوّم بثلاثة أركان: الركن الأوّل: الموضوع وهو العلم، الركن الثاني:
ج1
الموضوع عليه وهو ذات المكان، الركن الثالث: الموضوع له وهو الدلالة علىكون المكان رأس الفرسخ، وهذا بخلاف الوضع في باب الألفاظ، فإنّه يتقوّمبركنين: الأوّل: الموضوع وهو اللفظ، الثاني: الموضوع له وهو دلالته علىمعناه، ولا يحتاج إلى شيء ثالث ليكون ذلك الثالث هو الموضوع عليه،وإطلاقه على المعنى الموضوع له لو لم يكن من الأغلاط الظاهرة فلا أقلّ منأنّه لم يعهد في الإطلاقات المتعارفة والاستعمالات الشائعة، مع أنّ لازم مأفاده قدسسره هو أن يكون المعنى هو الموضوع عليه(1).
أقول: ظاهر كلامه وإن كان ما ذكره بعض الأعلام من قياسه المعنىالموضوع له على المكان الموضوع عليه العلم، لكنّه خلاف الواقع، فإنّ الصحيحأن يقاس دلالة اللفظ على المعنى على دلالة العلم على الموضوع له في بابالدوالّ، أعني دلالة العلم على كون المكان رأس الفرسخ، لا على الموضوععليه في ذلك الباب.
وعليه فلا يرد على كلامه إشكال بعض الأعلام.
لكن يرد عليه إشكال آخر، وهو أنّ الوضع في باب الدوالّ أيضاً اعتباريكما في باب الألفاظ، فإنّ العلم والمكان الموضوع عليه العلم وإن كانا أمرينواقعيّين، إلاّ أنّ دلالة العلم على كون هذا المكان رأس الفرسخ أمراعتباري(2)، كما أنّ اللفظ والمعنى أمران واقعيّان، لكن دلالته عليه اعتباري،
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 51.
- (2) ويمكن تقرير المسألة بوجه آخر، وهو أن يقال: لنا في باب الدوالّ ثلاث حقائق: أ ـ العلم، وهوالموضوع، ب ـ المكان الذي نصب عليه العلم، وهو الموضوع عليه، ج ـ كون ذلك المكان رأس الفرسخ،وهو الموضوع له.
وأمّا في باب الألفاظ والمعاني فليس لنا إلاّ واقعيّتان اثنتان: إحداهما: اللفظ، وهو الموضوع، والثانية:المعنى، وهو الموضوع له.
ولا ريب في أنّ الارتباط بين الموضوع والموضوع له في البابين أمر اعتباري، فإنّ العلم لا يدلّ على كونذلك المكان رأس الفرسخ إلاّ بالجعل والاعتبار، كما أنّ اللفظ لا يدلّ على المعنى إلاّ به.
فالوضع في كلا البابين أمر اعتباري لا حظّ له من الواقعيّة أصلاً. م ح ـ ى.
(صفحه140)
فلا يصحّ الفرق بين البابين بجعل الوضع في باب الألفاظ اعتباريّاً وفي بابالدوالّ حقيقيّاً.
لكن مع ذلك فأصل ما أفاده رحمهالله في حقيقة الوضع مقبول متين، كما عرفت.