(صفحه14)
في موضوع العلم
الأمر الأوّل
حول موضوع العلم وملاك تمايز العلوم وموضوع علم الاُصول وتعريفه
فهنا مقامات أربع من البحث:
المقام الأوّل: في موضوع العلم
قال في الكفاية: موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة(1).يستفاد من هذه الجملة اُمور ثلاثة: 1ـ أنّ العلم يحتاج إلى موضوع. 2ـ أنّذلك الموضوع المحتاج إليه أمر واحد. 3ـ أنّه ما يبحث في العلم عن عوارضهالذاتيّة.
فلابدّ من البحث عن هذه الاُمور الثلاثة.
رأي الإمام الخميني«مدّ ظلّه» حول احتياج العلم إلى الموضوع
ذهب سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» إلى عدم احتياج العلوم إلىالموضوع مستدلاًّ ـ على ما قرّره المقرّر ـ بأنّ مؤسّس كلّ علم ومدوّنه الأصليلم يعيّن موضوعاً له ليبحث عنه، بل العلوم في بدء تدوينها كانت ناقصة جدّاً،
ج1
بحيث لم تتجاوز مسائلها عدد الأصابع، فتكاملت بمرور الأزمنة حتّى صارتما بأيدينا اليوم.
ويشهد له ما نقله الشيخ الرئيس(1) عن المعلّم الأوّل(2) في تدوين المنطقمن أنّا ما ورثنا عمّن تقدّمنا في الأقيسة إلاّ ضوابط غير مفصّلة، وأمّا تفصيلهوإفراد كلّ قياس بشروطه فهو أمر قد كددنا فيه أنفسنا، ويمكن أن يزيد عليهمن يأتي بعدنا مباحث اُخرى أو يزيلوا عيوب آرائنا(3).
وفيه: أنّ قلّة مسائل العلوم في بدو تدوينها وتطوّرها بمرور الأزمنة وإنكانت أمراً مسلّماً إلاّ أنّها لا تنافي احتياجها إلى الموضوع لو دلّ عليه دليل،فالآن لابدّ لنا من ملاحظة أدلّة افتقارها إليه، وهي وجوه:
مسلك المشهور في المقام
الأوّل: ما تمسّك به المشهور لإثبات وحدة موضوع العلم،لأنّها لو ثبتتلثبت افتقار العلم إلى الموضوع أيضاً، لأنّ ثبوت وحدته فرع ثبوت نفسه.
وبيان دليلهم يحتاج إلى ذكر مقدّمتين:
الاُولى: أنّ كلّ علم يترتّب عليه غرض واحد، فإنّ الغرض من علم النحو«حفظ اللسان عن الخطأ في المقال»، ومن علم المنطق «صيانة الإنسان عنالخطأ في الفكر»، ومن علم اُصول الفقه «القدرة على استنباط الأحكامالفرعيّة الإلهيّة» وهكذا سائر العلوم، فكلّ علم يترتّب عليه فائدة واحدة.
الثانية: أنّ لنا قاعدة فلسفيّة، وهي أنّ «الواحد لا يصدر إلاّ من
- (1) راجع شرح المنظومة، قسم المنطق: 6.
- (2) المعلّم الأوّل: لقب أرسطو. م ح ـ ى.
(صفحه16)
الواحد»(1)، فيمتنع أن يؤثّر الأمران المتباينان اللذان لا جامع بينهما في أمرواحد، فتأثير الشمس والنار في الحرارة مثلاً كاشف عن وجود جامع بينهمهو المؤثّر فيها لا محالة، وهذه القاعدة تسالم عليها جلّ المحقّقين، وأقاموالبرهان عليها.
إذا عرفت هاتين المقدّمتين، فنقول:
كلّ علم عبارة عن مجموع مسائله، وهي مؤثّرة في الغرض، مثلاً علم النحوعبارة عن «كلّ فاعل مرفوع، كلّ مفعول منصوب، كلّ مضاف إليه مجرور»وسائر المسائل، وهي توجب الوصول إلى الغرض الذي هو «صون اللسانعن الخطأ في المقال»، فلابدّ من تصوّر جامع واحد بين المسائل يكون مؤثّرفي الغرض واقعاً.
وحيث إنّ كلّ مسألة مركّبة من موضوع(2) ومحمول ونسبة بينهما، فالجامعالمؤثّر في الغرض بحسب التصوّر البدوي إمّا منتزع من الموضوعات أوالمحمولات أو النسب، ولكنّه بحسب الدقّة لا يمكن انتزاعه من المحمولات، لأنّالمحمول عارض على الموضوع ومتأخّر عنه، والموضوع معروض متقدّم عليهرتبةً، فلا يصلح المحمولات لانتزاع الجامع منها.
ومن هنا انقدح عدم صلاحيّة النسب أيضاً لذلك، لأنّها معانٍ حرفيّة غيرمستقلّة أوّلاً، ومتأخّرة عن الموضوعات والمحمولات ثانياً، فكيف يمكن انتزاعالجامع منها؟!
- (1) لهذه القاعدة طرف آخر، وهو أنّ «الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد»، لكنّه لا يرتبط بالمقام. منه مدّ ظلّه.
- (2) تختلف المسألتان أو أكثر من علم واحد، إمّا موضوعاً ومحمولاً، مثل «الفاعل مرفوع والمفعولمنصوب»، أو موضوعاً فقط، مثل «الفاعل مرفوع والمبتدأ مرفوع»، أو محمولاً فقط، مثل «الفاعل مرفوعوالفاعل مقدّم على المفعول». منه مدّ ظلّه.
ج1
فلابدّ من انتزاعه من الموضوعات، لعدم صلاحيّة النسب والمحمولاتلذلك.
فثبت أنّ لكلّ علم موضوعاً، وهو أمر واحد مؤثّر في غرضه الواحدمنتزع من موضوعات مسائله.
هذا حاصل دليل المشهور.
ويمكن المناقشة فيه من وجوه
1ـ لا دليل على وحدة الغرض المترتّب على العلم، فانّه يمكن أن يترتّبعلى علم فائدتان متلازمتان، والمحقّق الخراساني رحمهالله وإن قال بامتناعه عادةً(1)،إلاّ أنّه لم يُقم دليلاً عليه.
2ـ أنّ وحدة غرض العلم مغايرة للوحدة في القاعدة الفلسفيّة.
توضيح ذلك: أنّ الواحد على ثلاثة أنواع، لأنّه إمّا شخصي، مثل «زيد»وإمّا نوعي، مثل «الإنسان» وإمّا عنواني، مثل «أهل هذا المدرس» فإنّه عنوانيعمّ المجتمعين في هذا المدرس، دون الخارجين عنه، ومثل «أهل البيت» في آيةالتطهير، فإنّه عنوان شامل للخمسة الطيّبة الذين كانوا في البيت(2) حين نزولالآية، ولا يعمّ الخارجين عنه كما هو واضح.
وبالجملة: الواحد على ثلاثة أنواع: شخصي ونوعي وعنواني.
- (2) البيت استعمل في الآية بمعناه اللغوي، أي: الحجرة، مقابل الدار، فأهل البيت هم المجتمعون في تلكالحجرة الخاصّة حين نزولها، وهم رسول اللّه وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام ، وبهذظهر وجه شموله لنفس النبيّ صلىاللهعليهوآله ، واختصاص كلمة «أهل بيتنا» في الاستعمالات العرفيّة بالزوجةوالأولاد وعدم شمولها لأنفسنا، فإنّ البيت في الآية كما قلنا استعمل بمعناه اللغوي، والنبيّ صلىاللهعليهوآله كان أحدالمجتمعين فيه. من أراد التفصيل فليراجع رسالتنا حول آية التطهير. منه مدّ ظلّه.
(صفحه18)
ثمّ الواحد العنواني قد يكون اعتباريّاً، كالصلاة المشتملة على القراءةوالركوع والسجود وسائر الأجزاء المعتبرة شرعاً أمراً واحداً.
وقد يكون عرفيّاً، كالمعجون المؤثّر في رفع مرض خاصّ، فإنّ وحدته وإنكانت باعتبار الطبيب المخترع له، إلاّ أنّ العرف أيضاً يراه أمراً واحداً.
إذا عرفت ذلك فنقول:
لا شبهة في أنّ المراد بالواحد في القاعدة الفلسفيّة هو الواحد الشخصي، كمبيّنه المحقّقون من الفلاسفة، فإذا كان المعلول واحداً شخصيّاً يستحيل أن يتعدّدعلّته المستقلّة.
وحينئذٍ فإن أرادوا بوحدة الغرض المترتّب على العلم الوحدة الشخصيّةأيضاً ـ لكي ترتبط المقدّمة الاُولى بالثانية، ويتمّ القياس المنطقى الذي يبتنىعلى كون الأوسط في الصغرى والكبرى شيئاً واحداً ـ فلابدّ من القول بترتّبهذا الغرض الواحد على مجموع مسائل العلم بما هو مجموع، لا على الجامعبينها، لعدم اتّصافه بالوحدة الشخصيّة، وإنّما المتّصف بها هو المجموعكما لا يخفى.
وبعبارة اُخرى: إذا قلنا: فائدة علم النحو هي «صون اللسان عن الخطأ فيالمقال» فهذه الفائدة أمر واحد شخصي معلول عن أمر واحد شخصي آخربمقتضى المقدّمتين، فلا يمكن أن تكون علّته الجامع بين مسائل النحو كما عليهالمستدلّ، ضرورة أنّه أمر كلّي، ولا مسألةً واحدةً منها، لاستلزامه خروجسائر المسائل عنه، فلابدّ من القول بأنّها مركّبة من مجموع مسائله، بحيث لوتعلّم شخص جميع مسائل النحو إلاّ مسألة واحدة لما حصل له صون اللسانعن الخطأ في المقال أصلاً، كالصلاة الفاقدة لجزء واحد عمداً، حيث لم يترتّبعليها النهي عن الفحشاء والمنكر أصلاً، ولا يمكن الالتزام بهذا اللازم في المقام،