(صفحه164)
في وضع الحروف
الوضع في الحروف(1)
اختلفوا فيه على أقوال:
1ـ نظريّة المشهور فيه
المشهور بين علماء العربيّة أنّ الوضع فيها عامّ والموضوع له خاصّ،فالواضع حين وضع كلمة «من» تصوّر مفهوم «الابتداء» لكن لم يضعها لذلكالمفهوم العامّ المتصوّر، بل وضعها لمصاديقه وأفراده.
2ـ رأي المحقّق الخراساني رحمهالله في وضع الحروف
والمحقّق صاحب الكفاية ذهب إلى عموم الوضع والموضوع له بل المستعملفيه أيضاً في الحروف، فإنّه قال:
وأمّا الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ فقد توهّم أنّه وضع الحروف وم
- (1) البحث في وضع الحروف بحث علمي طويل الذيل ويوجب تربية الذهن، بل يمكن أن يترتّب عليهثمرات عمليّة أيضاً في بعض المباحث الآتية، مثل مسألة رجوع الشرط في الواجب المشروط إلى الهيئةكما عليه المشهور، أو إلى المادّة كما عليه الشيخ الأعظم، فيمكن أن يقال: إنّ المادّة قابلة للتقييد، لأنّ لهمعنىً اسميّاً ذا إطلاق، وأمّا الهيئة التي لها معنى حرفي فلا تقبل التقييد إلاّ إذا كان ما وضع له الحروف عامّاً.
وترتيب هذه الثمرة على البحث وإن كان لا يخلو عن إشكال، إلاّ أنّه مسألة مهمّة في نفسه، ويمكن أنيترتّب عليه في مبحث مفهوم الشرط كون أداته ذا إطلاق وعدمه. منه مدّ ظلّه.
ج1
اُلحق بها من الأسماء كما توهّم أيضاً أنّ المستعمل فيه فيها خاصّ مع كونالموضوع له كالوضع عامّاً.
والتحقيق حسبما يؤدّي إليه النظر الدقيق أنّ حال المستعمل فيه والموضوعله فيها حالهما في الأسماء، وذلك لأنّ الخصوصيّة المتوهّمة إن كانت هي الموجبةلكون المعنى المتخصّص بها جزئيّاً خارجيّاً، فمن الواضح أنّ كثيراً ما لا يكونالمستعمل فيه فيها كذلك، بل كلّيّاً(1). ولذا التجأ بعض الفحول إلى جعله جزئيّ
- (1) كما إذا استعملت في مقام الأمر، كأن يقول المولى لعبده: «سر من البصرة إلى الكوفة» فإنّ كلمة «من»استعملت في كلّي الابتداء من البصرة، لأنّ المأمور به قبل وجوده لا يتصوّر أن يكون جزئيّاً، وبعد وجودهفي الخارج لا يمكن أن يكون مأموراً به، فإنّ الخارج ظرف سقوط التكليف لا ثبوته، فالمأمور به وقيودهفي مقام تعلّق الأمر لا يكون إلاّ كلّيّاً.
وبعبارة اُخرى: هل تعلّق الأمر بالسير المتحقّق في الخارج أو بمفهومه؟
لا يعقل الأوّل، لأنّه من قبيل الأمر بتحصيل الحاصل، فلابدّ من أن يتعلّق بالمفهوم الذي هو عنوان كلّي لمحالة. بل الأمر كذلك في الإخبار عن المستقبل، كما إذا قال: «سوف أسير من النجف إلى كربلاء» مندون ذكر نقطة ابتداء السير ومقصده وزمانه ومن هو يصاحبه في هذا السير وسائر الخصوصيّات،فلاريب في كون هذا السير بجميع قيوده كلّيّاً.
ولا يمكن القول بأنّ استعمال الحروف غلط أو مجاز فيما إذا استعملت في مقام الأمر والإخبار عنالمستقبل، وحقيقة فيما إذا استعملت في مقام الإخبار عن الماضي، بل جميع هذه الاستعمالات صحيحةوحقيقيّة. فلا دخل للجزئيّة الخارجيّة في معاني الحروف. منه مدّ ظلّه في توضيح كلام المحقّقالخراساني رحمهالله .
وفيه: أنّه خلط بين الخصوصيّة الخارجيّة والخصوصيّة المبحوث عنها، توضيح ذلك: أنّه لا فرق بين«سرت من البصرة إلى الكوفة» و«سر من البصرة إلى الكوفة» في مفاد كلمة «من» عند المشهور، فإنّها فيكليهما تدلّ على الابتداء الخاصّ، وهو الابتداء الذي له إضافة إلى السير وإضافة اُخرى إلى البصرة.
نعم، في المثال الأوّل خصوصيّات اُخر معيّنة بحسب الخارج، مثل زمان السير ونقطة ابتدائه، لكن ليدّعي المشهور بدخل هذا النوع من الخصوصيّات في معاني الحروف، لأنّها لا ترتبط بمقام دلالة اللفظ،ألا ترى أنّا كلّما دقّقنا النظر في قول القائل: «سرت من البصرة إلى الكوفة» لا نفهم منه زمان السير ولنقطة شروعه.
والحاصل: أنّ الخصوصيّات الدخيلة في ماوضع له الحروف عند المشهور دخيلة فيه مطلقاً، سواء فيذلك الحروف المستعملة في جنب الماضي أو الأمر أو المستقبل، وأمّا الخصوصيّات الخارجيّة التي لتتحقّق إلاّ في الجمل الخبريّة الماضويّة فلا بحث فيها؛ لعدم ارتباطها بمقام دلالة اللفظ. هذا ما أفادهشيخنا الاُستاذ«مدّ ظلّه» في مبحث دلالة الفعل على الزمان من مباحث المشتقّ. م ح ـ ى.
(صفحه166)
إضافيّاً وهو كما ترى.
وإن كانت هي الموجبة لكونه جزئيّاً ذهنيّاً، حيث إنّه لا يكاد يكون المعنىحرفيّاً إلاّ إذا لوحظ حالةً لمعنى آخر ومن خصوصيّاته القائمة به ويكون حالهكحال العرض، فكما لا يكون في الخارج إلاّ في الموضوع كذلك هو لا يكونفي الذهن إلاّ في مفهوم آخر، ولذا قيل في تعريفه بأنّه ما دلّ على معنى فيغيره(1)، فالمعنى وإن كان لا محالة يصير جزئيّاً بهذا اللحاظ بحيث يباينه إذلوحظ ثانياً كما لوحظ أوّلاً ولو كان اللاّحظ واحداً.
إلاّ أنّ هذا اللحظ لا يكاد يكون مأخوذاً في المستعمل فيه، وإلاّ فلابدّ منلحاظ آخر متعلّق بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ، بداهة أنّ تصوّر المستعمل فيهممّا لابدّ منه في استعمال الألفاظ(2)، وهو كما ترى.
- (1) فكلمة «من» مثلاً وضعت للابتداء الذي لوحظ وصفاً وحالةً للغير. منه مدّ ظلّه في توضيح كلام صاحبالكفاية رحمهالله .
- (2) توضيح ذلك: أنّ الاستعمال فعل اختياري متعلّق باللفظ والمعنى، فلا يمكن أن يتحقّق إلاّ بعد تصوّراللفظ المستعمل والمعنى المستعمل فيه كليهما، فلو كانت كلمة «من» بمعنى «الابتداء الذي لوحظ حالةًللغير» فلابدّ لنا حين الاستعمال مضافاً إلى اللحاظ المتعلّق باللفظ من لحاظين آخرين في ناحية المعنى:أحدهما: ما يكمل به المعنى، وهو يتعلّق بالابتداء بما أنّه حالة للغير، والثاني: ما نحتاج إليه لأجلالاستعمال، وهو يتعلّق بمجموع المعنى أعني «الابتداء الذي لوحظ حالةً للغير».
إن قلت: يمكن الاكتفاء بلحاظ واحد في ناحية المعنى محصّل لكلا الغرضين.
قلت: لا يمكن ذلك، لأنّ اللحاظ المحتاج إليه لأجل الاستعمال متأخّر عن اللحاظ المكمّل للمعنى، فليعقل دخل لحاظ واحد في كلتا المرتبتين، ليحصل به كلا الغرضين.
وبالجملة: إن اُريد بجزئيّة معاني الحروف الجزئيّة الذهنيّة ـ كما هو ظاهر كلامهم ـ فلابدّ من الفرق بينهوبين الأسماء، بأنّ استعمال الأسماء في معانيها لا يحتاج إلى أكثر من لحاظين: أحدهما يتعلّق باللفظ،والآخر بالمعنى، بخلاف الحروف، فإنّها تحتاج إلى لحاظات ثلاثة: أحدها يتعلّق باللفظ، والثاني بجزءالمعنى، ليكمل ويتمّ به، والثالث بالمعنى الكامل، ليستعمل اللفظ فيه، وهل يمكن الالتزام بهذا الفرق؟!منه مدّ ظلّه في توضيح كلام المحقّق الخراساني رحمهالله .
ج1
مع أنّه يلزم أن لا يصدق على الخارجيّات، لامتناع صدق الكلّي العقليعليها، حيث لا موطن له إلاّ الذهن، فامتنع امتثال مثل «سر من البصرة» إلبالتجريد وإلقاء الخصوصيّة.
هذا، مع أنّه ليس لحاظ المعنى حالةً لغيره في الحروف إلاّ كلحاظه في نفسهفي الأسماء، وكما لا يكون هذا اللحاظ معتبراً في المستعمل فيه فيها كذلك ذاكاللحاظ في الحروف كما لا يخفى.
وبالجملة: ليس المعنى في كلمة «من» ولفظ «الابتداء» مثلاً إلاّ الابتداء،فكما لا يعتبر في معناه لحاظه في نفسه ومستقلاًّ كذلك لا يعتبر في معناهلحاظه في غيرها وآلةً، وكما لا يكون لحاظه فيه موجباً لجزئيّته فليكن كذلكفيها.
إن قلت: على هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى، ولزم كون مثلكلمة «من» ولفظ «الابتداء» مترادفين صحّ استعمال كلّ منهما في موضعالآخر، وهكذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها، وهو باطلبالضرورة كما هو واضح.
قلت: الفرق بينهما إنّما هو في اختصاص كلّ منهما بوضع، حيث إنّه وضعالاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه، والحرف ليراد منه معناه لا كذلك،بل بما هو حالة لغيره كما مرّت الإشارة إليه غير مرّة.
(صفحه168)
فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع يكون موجباً لعدم جوازاستعمال أحدهما في موضع الآخر، وإن اتّفقا فيما له الوضع.
وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنّ نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن أن يكونمن خصوصيّاته ومقوّماته(1).
إنتهى كلامه رحمهالله .
نقد نظريّة المحقّق الخراساني رحمهالله في وضع الحروف
أقول: كلامه رحمهالله في مقام الفرق بين الاسم والحرف ذو احتمالين:
أ ـ أنّ الفرق بينهما إنّما هو شرط الواضع، بمعنى أنّه شرط على المستعملينوألزمهم بأن لا يستعملوا الاسم إلاّ فيما إذا لوحظ المعنى مستقلاًّ، ولا الحرفإلاّ فيما إذا لوحظ حالةً للغير.
وفيه أوّلاً: أنّه ليس في معاجم اللغة من هذا الشرط والإلزام عين ولا أثر،فمن أين علمتم به مع أنّ هذه المعاجم هي الطريق الوحيد لمعرفة مثل هذهالاُمور؟!
وثانياً: لا يجب رعاية شروط الواضع فيما إذا لم يكن لها دخل فيما وضع له.
نعم، لو قلنا بأنّ الواضع هو اللّه سبحانه لوجب اتّباع جميع أوامره التي منهشرط الواضع، بخلاف ما إذا قلنا بأنّه هو البشر كما عرفت.
إن قلت: فكيف يجب رعاية الشروط التي في ضمن العقد حيث يجب علىالمشتري خياطة الثوب التي التزم بها في ضمن عقد البيع؟
قلت: لزوم رعاية هذا القسم من الشروط إنّما هو لأجل قبولها من قبل من