(صفحه192)
قصد المتكلّم بإفادة ضيق المعنى الاسمي، فما يستعمل فيه الحرف ليس إلالضيق في عالم المفهوميّة من دون لحاظ نسبة خارجيّة حتّى في الموارد الممكنةكما في الجواهر والأعراض، فضلاً عمّا يستحيل فيه تحقّق نسبة ما كما في صفاتالواجب تعالى وما شاكلها.
وعلى الجملة: حيث إنّ الأغراض تختلف باختلاف الأشخاص والأزمانوالحالات فالمستعملين(1) بمقتضى تعهّداتهم النفسانيّة يتعهّدون أن يتكلّموبالحروف أو ما يشبهها عند تعلّق أغراضهم بتفهيم حصص المعانيوتضييقاتها، فلو أنّ أحداً تعلّق غرضه بتفهيم الصلاة الواقعة بين زوال الشمسوغروبها يبرزه بقوله: «الصلاة بين الحدّين حكمها كذا» وهكذا.
والذي دعاني إلى اختيار هذا القول أسباب أربعة:
السبب الأوّل: بطلان سائر الأقوال والآراء.
السبب الثاني: أنّ المعنى الذي ذكرناه مشترك فيه بين جميع موارد استعمالالحروف من الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد، وليس في المعانيالاُخر ما يكون كذلك كما عرفت.
السبب الثالث: أنّ ما سلكناه في باب الوضع من أنّ حقيقة الوضع هي:«التعهّد والتباني» ينتج الالتزام بهذا القول لا محالة، ضرورة أنّ المتكلّم إذقصد تفهيم حصّة خاصّة فبأيّ شيء يبرزه إذ ليس المبرز له إلاّ الحرف أو ميقوم مقامه.
السبب الرابع: موافقة ذلك للوجدان ومطابقته لما ارتكز في الأذهان، فإنّالناس يستعملونها لإفادة حصص المعاني وتضيّقاتها في عالم المعنى، غافلين
- (1) «فالمستعلمون» صحيح. م ح ـ ى.
ج1
عن وجود تلك المعاني في الخارج أو عدم وجودها وعن إمكان تحقّق النسبةبينها أو عدم إمكانها، ودعوى إعمال العناية في جميع ذلك يكذّبها صريحالوجدان والبداهة كما لا يخفى، فهذا يكشف قطعيّاً عن أنّ الموضوع له الحرفذلك المعنى لا غيره(1).
إنتهى كلامه ملخّصاً(2).
نقد ما أفاده المحقّق الخوئي في وضع الحروف
أقول: قد ظهر لك ممّا تقدّم فساد الأسباب الثلاثة الاُول، فإنّ قول المحقّقالاصفهاني رحمهالله لم يكن باطلاً، والمعنى الذي اختاره أيضاً كان مشتركاً فيه بينجميع موارد استعمال الحروف من الواجب والممكن والممتنع كما عرفت فيجواب ما أورده عليه بعض الأعلام من الإشكال(3).
وكون حقيقة الوضع «التعهّد والتباني» فقد عرفت فساده في ذلك البحث(4).
بقي مسألة الوجدان، وهو يقضي بخلاف ما ذكره، فإنّ الجمل الخبريّة التياستعملت فيها الحروف كقولنا: «زيد في الدار» مبيّنة للمعنى المضيّق، فالمعنىيكون في الواقع مضيّقاً والحرف مبيّن له، لا أنّه يضيّقه ويقيّده، وأمّا الجملالإنشائيّة كقولنا: «صلِّ في المسجد» فالحروف المستعملة فيها وإن كانتللتضييق، إلاّ أنّ المراد به تضييق واقعي خارجي، لا بحسب الاستعمال ومقام
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 85 .
- (2) ولم يتعرّض الاُستاذ«مدّ ظلّه» لكلام المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» حول القسم الثاني من الحروف، أعني ميدخل على المركّبات التامّة ومفاد الجملة، فمن أراده راجع المحاضرات 1: 80 . م ح ـ ى.
(صفحه194)
الدلالة فقط، سيما على القول بكون الأحكام تابعة للمصالح الواقعيّة، كما ذهبإليه بعض الأعلام أيضاً.
على أنّ الحروف متعدّدة ومختلفة، ولا يمكن أن يكون كلّها بمعنى«التضييق» وإلاّ لصحّ استعمال بعضها مكان بعض مع وضوح عدم صحّةاستعمال كلمة «في» مكان «على» مثلاً وبالعكس، فلا يكون جميع الحروفبمعنى التضييق المطلق، بل كلّ واحد منها دالّ على تضييق خاصّ مغاير لما دلّعليه سائر الحروف، فإنّ التضييق الابتدائي الذي يستفاد من كلمة «من» غيرالتضييق الانتهائي الذي يستفاد من كلمة «إلى»، والتضييق الاستعلائي المدلولبكلمة «على» مغاير للتضييق الظرفي المدلول بكلمة «في» فلا يصحّ القولبكون الحروف موضوعة لتضييق المفاهيم الاسميّة، من دون تبيين أنواعهالخاصّة.
أضف إلى هذا أنّ التضييق عمل المتكلّم، فهو عبارة اُخرى عن الإيجاد،فالمعنى الذي اختاره بعض الأعلام يرجع إلى ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمهالله .
7ـ القول المختار
لا ريب في أنّ الحروف على قسمين: حاكية، وهي أكثر الحروف، مثل«من» و«إلى» في قولنا: «سرت من البصرة إلى الكوفة» وإيجاديّة، نحو حروفالنداء والتأكيد.
ولا ريب أيضاً في أنّ الحروف تارةً تستعمل في الجمل الخبريّة، كالمثالالمتقدِّم، واُخرى في الجمل الإنشائيّة، كأن يقول المولى لعبده: «سر من البصرةإلى الكوفة».
وعلينا أن نكون ملتفتين إلى هذه الأنواع لكي ندخل في بحث المعنى الحرفي
ج1
على بصيرة كاملة، فنقول:
التحقيق يقتضي النظر إلى ثلاث مراحل حتّى يتّضح لنا معنى الحروفالحاكية المستعملة في الجمل الخبريّة مثل «سرت من البصرة إلى الكوفة»ونحن نتمسّك هنا بقضاوة الوجدان، وإن أقام عليه المحقّق الاصفهاني رحمهالله البرهان.
الاُولى: مرحلة الواقعيّة المتحقّقة في الخارج:
إنّ الوجدان حاكم بأنّ زيداً إذا سار من البصرة إلى الكوفة يكون لنا سوىالواقعيّات الأربعة، وهي «السير، زيد، البصرة والكوفة» واقعيّتان اُخريان،وهما «كون البصرة ابتداء السير والكوفة انتهائه» وإلاّ لم يكن فرق بين واقعيّةسيره من البصرة إلى الكوفة وبين عكسها، مع أنّ الفرق بينهما في الخارجبديهي.
نعم، كون البصرة ابتداء السير والكوفة انتهائه وجودان متعلّقان بطرفيهمبل فانيان فيهما، نظير ما قال صدر المتألّهين في الممكنات من أنّ وجودها عينالربط بالواجب تعالى، لا أنّها أشياء لها الربط، فواقعيّة كون البصرة ابتداءالسير أيضاً هي الربط بين البصرة والسير، وواقعيّة كون الكوفة انتهائه أيضهي الربط بين الكوفة والسير.
إن قلت: هذا قسم ثالث من الوجود للممكنات، مع أنّ الحكماء قالوبانحصارها في الجوهر والعرض.
قلت: لا ضير في ذلك، فإنّه ليس لهم برهان على انحصارها فيهما، والوجدانقاض بوجود هذا القسم الثالث الذي ليس بجوهر ولا عرض، وهو أضعفالوجودات.
(صفحه196)
الثانية: مرحلة تصوّر المخاطب وحصول صورة الواقعيّة الخارجيّة في ذهنهبتوسّط الكلام:
إذا قلت: «سرت من البصرة إلى الكوفة» يتصوّر المخاطب لا محالة عنداستماعه هذه الجملة الواقعيّات الستّة التي كانت أربعة منها واقعيّات مستقلّة،واثنتان منها غير مستقلّة، ولم يحصل الواقعيّتان الأخيرتان في ذهنه إلاّ كما همفي الخارج من الربط والفناء وعدم الاستقلال بحيث يحصل في ذهنه بتوسّطهذا الكلام عين صورة الواقعيّة الخارجيّة كما لو كان معك عند السير، وإلاّ فلميكن الكلام صادقاً.
الثالثة: مرحلة الألفاظ:
كما أنّ المعاني الحرفيّة كانت غير مستقلّة بالنظر إلى واقعيّتها، وبالنظر إلىحصولها في ذهن المخاطب، كذلك يعامل النحويّون مع الحروف ـ أعني الألفاظالدالّة عليها ـ معاملة عدم الاستقلال، ولذا قالوا في المثال: «من البصرة، وإلىالكوفة يتعلّقان بسرت» بخلاف الفاعل والمفعول، فإنّهم لم يقولوا في مثل«ضرب زيدٌ عمراً»: زيد وعمرو يتعلّقان بضرب، مع أنّ ارتباط الفاعلوالمفعول بالفعل وشبهه أشدّ من ارتباط الجارّ والمجرور بهما.
فلم يكن ذلك إلاّ لأجل تطابق اللفظ والمعنى، فحيث إنّ معاني حروفالجرّ غير مستقلّة جعلوا ألفاظها أيضاً كذلك، بخلاف الفاعل والمفعول، فإنّهممستقلاّن، فجعلوا اللفظين الدالّين عليهما أيضاً مستقلّين.
وبالجملة: هذا السنخ من الحروف حاكية عن معنى غير مستقلّ بالنظر إلىالمراحل الثلاث: مرحلة الواقعيّة، ومرحلة تصوّر المخاطب، ومرحلة استعمالالألفاظ، ولهذا لو استعملت كلمة «في» مثلاً وحدها لم يكن لها معنى أصلاً.