(صفحه196)
الثانية: مرحلة تصوّر المخاطب وحصول صورة الواقعيّة الخارجيّة في ذهنهبتوسّط الكلام:
إذا قلت: «سرت من البصرة إلى الكوفة» يتصوّر المخاطب لا محالة عنداستماعه هذه الجملة الواقعيّات الستّة التي كانت أربعة منها واقعيّات مستقلّة،واثنتان منها غير مستقلّة، ولم يحصل الواقعيّتان الأخيرتان في ذهنه إلاّ كما همفي الخارج من الربط والفناء وعدم الاستقلال بحيث يحصل في ذهنه بتوسّطهذا الكلام عين صورة الواقعيّة الخارجيّة كما لو كان معك عند السير، وإلاّ فلميكن الكلام صادقاً.
الثالثة: مرحلة الألفاظ:
كما أنّ المعاني الحرفيّة كانت غير مستقلّة بالنظر إلى واقعيّتها، وبالنظر إلىحصولها في ذهن المخاطب، كذلك يعامل النحويّون مع الحروف ـ أعني الألفاظالدالّة عليها ـ معاملة عدم الاستقلال، ولذا قالوا في المثال: «من البصرة، وإلىالكوفة يتعلّقان بسرت» بخلاف الفاعل والمفعول، فإنّهم لم يقولوا في مثل«ضرب زيدٌ عمراً»: زيد وعمرو يتعلّقان بضرب، مع أنّ ارتباط الفاعلوالمفعول بالفعل وشبهه أشدّ من ارتباط الجارّ والمجرور بهما.
فلم يكن ذلك إلاّ لأجل تطابق اللفظ والمعنى، فحيث إنّ معاني حروفالجرّ غير مستقلّة جعلوا ألفاظها أيضاً كذلك، بخلاف الفاعل والمفعول، فإنّهممستقلاّن، فجعلوا اللفظين الدالّين عليهما أيضاً مستقلّين.
وبالجملة: هذا السنخ من الحروف حاكية عن معنى غير مستقلّ بالنظر إلىالمراحل الثلاث: مرحلة الواقعيّة، ومرحلة تصوّر المخاطب، ومرحلة استعمالالألفاظ، ولهذا لو استعملت كلمة «في» مثلاً وحدها لم يكن لها معنى أصلاً.
ج1
ولنا قسم آخر من الحروف إيجادي، كحروف التأكيد والقسم والنداء، فإنّالتأكيد مثلاً ليس له واقعيّة خارجيّة حتّى تكون حروفه حاكية عنها، فإنّا قدنعبّر عن قيام زيد بـ «زيد قائم» وقد يقتضي الدواعي أنّ نعبّر عنه بـ «إنّ زيدلقائم» مع أنّ الواقع في كليهما واحد، فحروف التأكيد لإيجاد التأكيد للحكايته، وهكذا الحال في حروف القسم والنداء ونظائرهما من الحروفالإيجاديّة.
كيفيّة وضع الحروف
الحقّ عندنا أنّ وضعها ـ سواء كانت حاكية أو إيجاديّة ـ نظير الوضع العامّوالموضوع له الخاصّ بالمعنى المشهور، فإنّ الواضع عند وضع كلمة «من» مثلتصوّر مفهوم «النسبة الابتدائيّة» ثمّ وضع اللفظ لأنحاء النسب الابتدائيّةالواقعيّة، لا للمفهوم المتصوّر.
إن قلت: هذا من قبيل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، وقد قلتباستحالته(1).
قلت: لا، فإنّ مراد المشهور من الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ أنيكون النسبة بين المعنى المتصوّر والموضوع له نسبة الكلّي ومصاديقه والطبيعيوأفراده، ونحن لا نقول به في وضع الحروف، فإنّ النسب الواقعيّة ليستمصاديق لمفهوم النسبة، إذ المفهوم ليس بنسبة أصلاً، فإنّ حقيقة النسبة هيالوجود الرابط المتعلّق بالطرفين المندكّ فيهما، ومفهومها أمر مستقلّ، فكيفيمكن أن تكون النسبة بينهما نسبة الطبيعي والأفراد؟!
(صفحه198)
نعم، تكون النسبة بينهما نسبة العنوان والمعنون كما قال المحقّق الاصفهاني رحمهالله ،ويكفي تصوّر العنوان في مقام الوضع للمعنونات.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمهالله أورد إشكالاً على كون الموضوع له في الحروفخاصّاً، وهو أنّ الحرف وإن كان حاكياً عن الجزئي الخارجي في الجملالخبريّة، إلاّ أنّه ليس كذلك إذا استعمل في تلو الأوامر والنواهي، ضرورة أنّإذا قلنا: «سر من البصرة إلى الكوفة» يكون المعنى كلّيّاً لا جزئيّاً، فأينخصوصيّة الموضوع له(1)؟!
ويمكن بناءً على ما ذهبنا إليه من كون الحروف إمّا حاكية وإمّا إيجاديّةتصوير إشكال آخر أيضاً، وهو أنّ الحروف المستعملة في تلو الأوامروالنواهي لا يتصوّر أن تكون حاكية ولا إيجاديّة، فأين انحصارها فيهما؟!
واُجيب عمّا أورده المحقّق الخراساني رحمهالله بأنّ المعاني الحرفيّة حيث تكونربطاً بين الطرفين ومندكّةً فيهما تكون تابعة لهما، فإن كانا جزئيّين، كقولنا:«زيد في الدار» كان المعنى الحرفي أيضاً جزئيّاً، وإن كان أحدهما أو كلاهمكلّيّاً كان هو أيضاً كلّيّاً، فإذا قلنا: «كلّ علماء الحوزة العلميّة في المدرسةالفيضيّة» مثلاً، يكون معنى «في» كلّيّاً، لأجل كلّيّة أحد طرفيها، والمثال منهذا القبيل، لأنّ كلاًّ من البصرة والكوفة وإن كانت جزئيّة خارجيّة، إلاّ أنّالسير يكون كلّيّاً، لامتناع تعلّق الأمر بالجزئي الخارجي، لأنّ الشيء ما لميوجد لا يكون جزئيّاً، وبعد وجوده لا يمكن تعلّق الأمر به، لأنّه أمر بتحصيلالحاصل، فالسير المأمور به يكون كلّيّاً لا محالة، فيكون معنى «من» و«إلى»كلّيّاً بتبع كلّيّته.
ج1
أقول: هذا وإن أمكن أن يكون جواباً عن الإشكال الأوّل، إلاّ أنّه لا يصلحأن يكون جواباً عن الإشكال الثاني، وهو كيفيّة انحصار الحروف في القسمين.
وأجاب عمّا أورده المحقّق الخراساني رحمهالله سيّدنا الاُستاذ الأعظم«مدّ ظلّه» بوجهآخر، وهو أنّ الحروف حيث تكون موضوعة لأنحاء النسب والروابط تكونمن قبيل المشترك اللفظي، إلاّ أنّ الوضع هنا واحد، والمعاني غير متناهية،بخلاف المشترك اللفظي المصطلح، فإنّ الوضع هناك متعدّد بتعدّد المعاني،والمعاني أيضاً متناهية، فإذا قلنا: «سر من البصرة إلى الكوفة» يكون من قبيلاستعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.
ودعوى عدم جواز هذا النحو من الاستعمال ممنوعة، ولو سلّمنا عدمالجواز لاختصّ بالمشترك اللفظي المصطلح، أعني الأسماء التي لا تبعيّة لها فيدلالتها، بخلاف الحروف التي استعمالها ودلالتها وتحقّقها تبعيّة غير مستقلّة،فيكون هذا النحو من الاستعمال في الكثير والحكاية عنه ممّا لا محذور فيه، بلوإن كان المحكي غير متناهٍ، بعدما عرفت من أنّ التكثّر في الدلالة والاستعمالتبعي لا استقلالي(1).
أقول: والحقّ في الجواب أنّ الكلّيّة في قولنا: «سر من البصرة إلى الكوفة»لا تتصوّر إلاّ بحسب الزمان والطريق والمركب ونحوها، وهذه الاُمور وإنكانت عند الأخبار مشخّصةً، إلاّ أنّ الجملة الخبريّة أيضاً لا تكون حاكيةًعنها، فإنّا إذا قلنا: «سرت من البصرة إلى الكوفة» لا يدلّ على أزيد منصدور السير من المتكلّم مع كون ابتدائه البصرة وانتهائه الكوفة، وأمّا زمانالسير وطريقه ومركوبه فهي وإن كانت متعيّنة في الواقع، إلاّ أنّ الجملة
(صفحه200)
لا تحكي عنها.
ولا ريب في أنّ المحكيّ بهذه الجملة الخبريّة تمام معناها، والقول بأنّ المحكيّبها بعض المعنى خلاف الوجدان.
فمن هنا يعلم أنّ ما وضع له كلمة «من» مثلاً هو أنحاء النسب الابتدائيّةالمتعلّقة بالطرفين المندكّة فيهما من دون أن يكون سائر الخصوصيّات كالزمانونحوه دخيلةً فيه، ولا فرق فيه بين الحروف المستعملة في الجملة الخبريّةوالإنشائيّة.
وهذا الجواب أجود من الجوابين الأوّلين، لأنّهما مبنيّان على تسلّم كلّيّةمعاني الحروف المستعملة تلو الأوامر والنواهي وما في معناهما، إلاّ أنّالإشكال ينحلّ بناءً على الجواب الأوّل بتبعيّة معاني الحروف في الكلّيّةوالجزئيّة لطرفيها، وبناءً على ما ذكره الإمام«مدّ ظلّه» بأنّ استعمال هذه الحروفتكون من قبيل استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد.
بخلاف ما ذكرناه، إذ لا مجال عليه للقول بكلّيّة المعنى الحرفي أصلاً، فإنّالحروف الحاكية وضعت للإضافات الخاصّة وتستعمل فيها، ولا فرق في ذلكبين كونها في الجمل الخبريّة والإنشائيّة كما مرّ توضيحه.
والحاصل: أنّ الحروف على قسمين: حاكية، وهي أكثرها، كـ «من» و«إلى»و«في» ونحوها، سواء استعملت في الجمل الخبريّة أو الإنشائيّة(1)، وإيجاديّة،
- (1) توضيح ذلك: أنّ للحروف الحاكية واقعيّة خارجيّة محكيّة بها، إلاّ أنّها تحقّقت سابقاً في موارد استعمالالحروف في حيّز الماضي، نحو «سرت من البصرة إلى الكوفة» وستتحقّق في الآتي فيما إذا استعملت فيحيّز المستقبل، مثل «سأسير من البصرة إلى الكوفة» أو في حيّز الأمر، مثل «سر من البصرة إلى الكوفة»بخلاف الحروف الإيجاديّة، حيث قد عرفت أنّه لا واقعيّة لمعانيها أصلاً، ألا ترى أنّه ليس للتأكيد مثلواقعيّة خارجيّة، سواء استعملت حروفه في حيّز الماضي، مثل «إنّ زيداً قام» أو في حيّز المستقبل، نحو«إنّ زيداً سيقوم» فلا فرق بين الجملة الاُولى وبين قولنا: «زيد قام» ولا بين الثانية وبين قولنا: «زيدسيقوم» بحسب الواقعيّة الخارجيّة. م ح ـ ى.