(صفحه262)
ما ذكرناه من أنّ العلقة الوضعيّة مختصّة بصورة إرادة تفهيم المعنى، وليسمرادهما من ذلك أخذ الإرادة التفهيميّة في المعنى الموضوع له لكي يرد عليهما أورد(1).
انتهي كلامه ملخّصاً.
نقد ما أفاده المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» في المقام
وفيه أوّلاً: أنّه مبنيّ على ما اختاره من كون حقيقة الوضع هي التعهّدوالالتزام، ونحن لم نسلّم هذا المبنى في ذلك البحث(2).
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 117.
- (2) يمكن أن يقال: إنّ المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» لم يحصر البحث على مبناه، فإنّه بعد توجيه ما اختاره علىطبق مبناه قال:
بل إنّ الأمر كذلك حتّى على ما سلكه القوم في مسألة الوضع من أنّه أمر اعتباري، فإنّ الأمر الاعتبارييتبع الغرض الداعي إليه في السعة والضيق، فالزائد على ذلك لغو محض، ولمّا كان الغرض الباعثللواضع على الوضع قصد تفهيم المعنى من اللفظ وجعله آلةً لإحضار معناه في الذهن عند إرادة تفهيمهفلا موجب لجعل العلقة الوضعيّة واعتبارها على الإطلاق، حتّى في اللفظ الصادر عن لافظ من غيرشاعر، كالنائم والمجنون ونحوهما، فإنّ اعتباره في أمثال هذه الموارد من اللغو الظاهر.
وإن شئت فقل: حيث إنّ الغرض الباعث على الوضع هو إبراز المقاصد والأغراض خارجاً فلا محالة ليزيد سعة الوضع عن سعة ذلك الغرض، فإنّه أمر جعلي واختياره بيد الجاعل، فله تقييده بما شاء منالقيود إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وبما أنّ الغرض في المقام قصد التفهيم فلا محالة تختصّ العلقةالوضعيّة بصورة إرادة التفهيم.
فالنتيجة هي انحصار الدلالة الوضعيّة بالدلالة التصديقيّة على جميع المسالك والآراء في تفسير حقيقةالوضع من دون فرق في المسألة بين رأينا وسائر الآراء.
لكنّ الاُستاذ«مدّ ظلّه» لم يتعرّض لهذه الفقرة من كلامه، ولعلّه لم يعتدّ بها، لأجل تضعيفها من قبلالمحقّق الخوئي نفسه، فإنّه عقيب التصريح بعدم الفرق في المسألة بين رأيه وسائر الآراء قال:
نعم، الفرق بينهما في نقطة واحدة، وهي أنّ ذلك الانحصار حتميّ على القول بالتعهّد دون غيره منالأقوال. م ح ـ ى.
ج1
وثانياً: لم نسلّم كون الدلالة التصوّريّة مستندة إلى الاُنس الحاصل من كثرةالاستعمال، بل الوجدان قاضٍ بأنّها مستندة إلى الوضع كما هو المشهور، فإنّكإذا وضعت لفظ زيد لابنك مثلاً وأعلمت ذلك فكلّما قيل: «زيد» ينتقل ذهنالسامع إليه ولو كان القائل نائماً غير مريد للمعنى حتّى فيما إذا لم يتحقّق كثرةالاستعمال فيه بعد، فالدلالة التصوّريّة مستندة إلى الوضع لا إلى كثرةالاستعمال.
فتلخّص من جميع ما ذكرناه أنّ الإرادة ليست جزءً ولا شرطاً للموضوعله أوّلاً، وأنّ الدلالة التصوّريّة من الدلالات الوضعيّة ثانياً، وأنّ كلام العلمينمربوط بها لا بالدلالة التصديقيّة ثالثاً، فإن قلنا بصحّة كلامهما ينحصر الوضعبما إذا كان المعنى مراداً بنحو القضيّة الحينيّة ولا وضع فيما إذا انتقل ذهن السامعإلى المعنى من اصطكاك حجر بحجر آخر أو من تلفّظ لافظ بلا شعورواختيار أو نحوهما، وإلاّ فلا ينحصر به، بل يعمّ جميع موارد انتقال الذهن إلىالمعنى.
(صفحه264)
في وضع المركّبات
الأمر السادس
في وضع المركّبات
وقبل الشروع في البحث ينبغي التنبيه على مقدّمة، وهي أنّ محلّ الكلام هنفي وضع المركّب بما هو مركّب، أعني وضعه بمجموع أجزائه من الهيئة والمادّة،مثلاً في قولنا: «زيد قائم» قد وضعت كلمة «زيد» لمعنى خاصّ، ومادّة كلمة«قائم» لمعنى آخر، وهيئتها لمعنى ثالث، وهيئته الجملة الخبريّة لمعنى رابع،وهو النسبة على ما هو المشهور بين المنطقيّين، والهوهويّة على ما اخترناه منعدم تحقّق النّسبة في القضايا، كلّ ذلك لا اشكال فيه، وإنّما الكلام والإشكالفي وضع آخر لمجموع المركّب من هذه المفردات.
المختار في المسألة
إذا عرفت هذا فالحقّ أنّه لا وضع للمركّبات سوى وضع مفرداتها.
ومن قال بكونها موضوعة فلو أراد من المركّب هيئة الجملة فهو صحيح،والنزاع لفظي، لكنّه خلاف ظاهر كلامهم، لأنّهم قالوا: للمركّب وضع كما أنّللمفرد وضعاً، وهيئة الجملة تعدّ من المفردات كما عرفت، على أنّهم قالوا: إنّالمركّب وضع لما وضعت له الهيئة، فيعلم منه أنّ مرادهم به غيرها.
ج1
وكيف كان، فالدليل على عدم تحقّق وضع للمركّبات سوى وضع المفرداتأنّ الوضع لابدّ له من أن يكون بإزاء المعنى، وليس لنا في الجمل غير معنىمفرداتها معنى آخر حتّى يوضع له مجموع المركّب، فإنّا إذا قلنا: «زيد قائم»مثلاً فلا إشكال في كون «زيد» موضوعاً لمعناه، وهكذا مادّة «قائم» وهيئته(1)،وهيئة الجملة الاسميّة أيضاً وضعت للنسبة على القول المشهور وللهوهويّةعلى ما اخترناه من عدم تحقّق النسبة في القضايا، وليس لنا معنى خامس حتّىيوضع له المركّب، ولا وضع بلا معنى، إذ الغرض من الوضع إنّما هو تفهيمالمعنى.
إن قلت: فكيف يكون «اجتماع النقيضين» و«شريك الباري» و«ممتنع»ونحوها موضوعة مع أنّه لا واقعيّة لها؟
قلت: الموضوع في الأوّلين كلّ من المضاف والمضاف إليه، وفي الثالث كلّمن المادّة والهيئة، ولا ريب في تحقّق المعنى لكلّ واحد من هذه الاُمور، وأمّالتركيب الإضافي في مثل «اجتماع النقيضين» فهو فعلنا لا فعل الواضع، فليلزم أن يكون له معنى، وهكذا تركيب المادّة والهيئة في مثل «ممتنع» و«محال».هذا أوّلاً.
وثانياً: لا نسلّم عدم المعنى لها، فإنّ لـ «اجتماع النقيضين» معنى ينتقل إلىالذهن من سماعه لكنّه محكوم بعدم التحقّق في الخارج، وهكذا سائر الأمثلة.
والحاصل: أنّا لا نجد غير معنى المفردات معنى آخر لكي يوضع له المجموعالمركّب.
ولأجل هذا اضطرّ بعض النحاة إلى القول بأنّه لم يوضع لمعنى آخر، بل لم
- (1) مادّة المشتقّ وضعت للمبدأ وهيئته لتلبّس الذات به. منه مدّ ظلّه.
(صفحه266)
وضعت له الهيئة، نظير اللّفظين المترادفين.
لكن يرد عليه أوّلاً: أنّه يستلزم أن يكون وضعه لغواً، إذ لا حاجة إليه بعدوضع الهيئة.
وأمّا الألفاظ المترادفة فمضافاً إلى أنّهم اختلفوا فيها وذهب بعض المحقّقينإلى أنّ لكلّ من الألفاظ التي يتخيّل ترادفها خصوصيّةً ليست في سائرها، إنّقياس المقام بها مع الفارق، لأنّها وضعت لمعنى واحد كثير الابتلاء، فأرادالواضع تسهيل الأمر على الناس، فوضع ألفاظاً متعدّدة لذلك المعنى الواحدكي يتمكّنوا من اختيار ما شاؤوا منها عند تفهيم المعنى، وهذا التوجيه ليجري في المقام، لأنّ المجموع المركّب وهيئة الجملة متلازمان، فلا يمكن اختيارأحدهما مستقلاًّ حتّى يستعمل بعضهم هذا وبعضهم تلك.
وثانياً: أنّه لا ينتقل الذهن عند سماع الجملة إلى النسبة أو الهوهويّة إلاّ مرّةًواحدةً، فالدليل عليها أيضاً لا يكون إلاّ واحداً.
وأورد عليه ابن مالك بوجه آخر، وهو أنّه لو كان للمركّب وضع على حدةفلا محالة إمّا أن يكون نوعيّاً أو شخصيّاً(1)، لا سبيل إلى الأوّل لتغاير كلّمركّب مع المركّب الآخر حيث يتغاير أجزائهما التي يتشكّل المركّب منها، وأمّالثاني فلا يمكن، لعدم تناهي المركّبات، فلا يمكن تصوّر كلّ جملة بنفسها، علىأنّه يستلزم عسر الخطابة، لأنّ الخطيب لابدّ له في كلّ جملة أن يفكّر في أنّههل هي موضوعة أم لا، فلا يستعملها لو لم تكن موضوعة كما لا يستعملاللفظ المفرد إلاّ إذا كان موضوعاً.
- (1) تقدّم توضيح الوضع النوعي والشخصي، فراجع ص144.