(صفحه354)
في أدلّة القول بالصحيح
أدلّة القول بالصحيح
قد استدلّ للصحيحي بوجوه ذكرها في الكفاية:
في التبادر وصحّة السلب عن الفاسد
منها: التبادر، ودعوى أنّ المنسبق إلى الأذهان من ألفاظ العبادات هوالصحيح، ولا منافاة بين دعوى ذلك وبين كون الألفاظ على هذا القولمجملات، فإنّ المنافاة إنّما تكون فيما إذا لم يكن معانيها على هذا الوجه مبيّنةأصلاً، وقد عرفت كونها مبيّنة بآثارها(1).
وأورد عليه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» بأنّ للماهيّة في وعاءتقرّرها تقدّماً على لوازمها وعلى الوجود الذي هو مظهر لها، كما أنّها متقدّمةعلى لوازم الوجود بمرتبتين، لتوسّط الوجود بينها وبين لوازم الوجود، وإذأضفت ذلك إلى ما قد علمت سابقاً من أنّ النهي عن الفحشاء وكونها معراجالمؤمن وما أشبههما من لوازم الوجود لا من آثار الماهيّة، لعدم كونها منشلتلك الآثار في حدّ نفسها، تعرف أنّه لا وجه لهذا التبادر أصلاً، لأنّ تلكالعناوين كلّها في مرتبة متأخّرة عن نفس المعنى الماهوي الموضوع له، بل لو
ج1
قلنا: إنّها من عوارض الماهيّة أو لوازمها كانت أيضاً متأخّرة عنه، فمع ذلككيف يمكن دعوى تبادرها من لفظ الصلاة مثلاً.
والخلاصة: أنّ مدّعي التبادر للصحيح لابدّ أن يتصوّر معنى ويعيّن لهعنواناً يساوق الصحيح في ظرف التبادر، حتّى يدّعي أنّ المتبادر هو الصحيح،وما ذكروه وإن كان ممّا يساوقه، إلاّ أنّه ليس ممّا يخطر بباله في وعائه، بل بعدهبرتبتين، فالموضوع له يبقى مجهول العنوان والحقيقة في وعاء التبادر من جميعالجهات، ووضوح حقيقته في رتبتين بعده لا يصحّح أمر التبادر، إذ للأعمّي أنيدّعي أنّ الصلاة المعرّفة بهذه العناوين قسم من المسمّى.
ومن ذلك يعرف حال صحّة السلب عن الفاسد(1)، إذ لا يخلو إمّا أن يصحّسلب لفظ الصلاة مثلاً عن تلك الماهيّة بلا معرّفيّة هذه العناوين المتأخّرة وإمّبمعونتها، والأوّل باطل، إذ هي مع قطع النظر عنها مجهولة الكنه غير معلومةالمعنى على الفرض، فكيف يسلب المجهول بما هو مجهول عن شيء، والثانيأيضاً مثله، إذ تعريفها بهذه الآثار يساوق تقييدها بالصحّة الفعليّة، فيرجع إلىصحّة سلب الصلاة الصحيحة عن الفاسدة، وهي ممّا لا يقبل الإنكار.
والحاصل: أنّ صحّة سلب المعنى بما هو هو ممّا لا يمكن الوصول إليه للجهلبه، وسلب المعنى بمعرّفيّة هذه الاُمور بعد فرض كونها معرّفات للصحيح غيرمفيد أصلاً.
وتوهّم أنّ تلك العناوين اُخذت ظرفاً لا قيداً قد مرّ ما فيه، إذ غاية الأمرعدم أخذها قيداً، إلاّ أنّها في هذه الحالة لا تنطبق إلاّ على الصحيح، ولا فائدة
- (1) قال المحقّق الخراساني رحمهالله في عداد أدلّة الصحيحي: ثانيها: صحّة السلب عن الفاسد بسبب الإخلالببعض أجزائه أو شرائطه بالمداقّة وإن صحّ الإطلاق عليه بالعناية. كفاية الاُصول: 45.
(صفحه356)
في صحّة سلبها عن الفاسد.
ثمّ قال:
هذا، ويمكن تصحيح دعوى التبادر وصحّة السلب، إمكاناً لا وقوعاً،بتقريب أنّ من سبر حال الواضعين من السلف والخلف يجد أنّ المطّرد بينهمهو وضع الألفاظ بمقدار يرفع الحاجة، ومهما وقفوا على أشياء أو اخترعوشيئاً من الصنايع وغيرها عيّنوا بإزائها ألفاظاً تفيد معانيها عند الإطلاق، ولميكن ذلك الوضع منهم حين وقوفهم على حقائق الأشياء بأجناسها وفصولها،إذ قلّما يتّفق ذلك لبشر، إلاّ الأوحدي من الفلاسفة وعلماء الطبيعة، بل كانالعرف الساذج ينتقل من بعض المصاديق إلى جامع ارتكازي يصلح أن يكونجامعاً بين الأفراد من الصورة النوعيّة وغيرها ممّا يصلح وقوعه جامعاً، وقدأيّدت التجربة أنّ من اخترع سيّارة أو استكشف حيواناً، يشير إلى المصنوعوالمستكشف الموجودين بين يديه ويسمّيه باسم، لا بما أنّه اسم لشخصخاصّ في زمانه ومكانه، بل يشير بالتوجّه إليه إلى نفس الجامع ويضع اللفظبازائه بمعرّفيّة هذا العنوان من غير نظر إلى خصوصيّته الشخصيّة، بل لجامعهوطبيعته النوعيّة. وبذلك يتّضح أنّ الوضع في غالب تلك الموارد من قبيلالوضع الخاصّ والموضوع له العامّ، لكون الملحوظ عند الوضع شيئاً خاصّوالموضوع له أمراً عامّاً.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ التبادر أيضاً كذلك، لعدم كونه في ذلك أهمّ منالوضع، فإذا لم يحتج وضع اللفظ للمعنى إلى العلم بذاته وكنهه لم يحتج تبادرهإليه بطريق أولى، ويؤيّده أنّ العامّي الذي لا حظّ له من المنطق والفلسفة ليعلم ماهيّة الإنسان، وأنّه «حيوان ناطق» ومع ذلك يتبادر معناه عنده. فعلى
ج1
هذا يسوغ للصحيحي أن يدّعي أنّ الصلاة بحسب ارتكاز أهل الشرع يتبادرمنها معنى إجماليّ، وهو الجامع الذي لا ينطبق إلاّ على الأفراد الصحيحة، فليكون معنى الصلاة مبهماً ومجهولاً في ظرف التبادر، وبذلك يندفع الاستحالةالتي ذكرناها.
وهذا وإن كان يصحّح دعوى تبادر الصحيح بحسب الإمكان العقلي، إلأنّه بعدُ ممنوع وقوعاً، لأنّ الإنصاف أنّ من اخترع السيّارة وعيّن لفظاً خاصّلها، لم ينتقل من الفرد الموجود إلاّ إلى نفس الجامع الارتكازي من غير لحاظالخصوصيّات من الصحّة والفساد، كما أنّ المتبادر من ألفاظ العبادات هو نفسطبايعها بما هي، لا بما أنّها ملزومة للّوازم ومعروضة للعوارض، والمتتبّع فيالآثار يجد ذلك في عصر النبيّ صلىاللهعليهوآله وزمان الصادقين عليهماالسلام عصر نشر الأحكاموفتح بابها بمصراعيه(1)، إنتهى كلامه«مدّ ظلّه».
وحاصله: أنّ دعوى تبادر الصحيح وصحّة السلب عن الفاسد ممكنةعقلاً، إلاّ أنّه لا دليل لإثبات وقوعهما، كما أنّ الأعمّي أيضاً تمسّكبهذين الدليلين، أعني التبادر وعدم صحّة السلب عن الفاسد، وهو أيضاً ممكنثبوتاً، إلاّ أنّه لا يقدر على إثباتهما، فلابدّ من ملاحظة الأدلّة الاُخرى لكشفالواقع.
في دلالة الأخبار على الصحيح
ومنها: طائفتان من الأخبار:
1ـ الأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواصّ والآثار للمسمّيات مثل
- (1) تهذيب الاُصول 1: 116.
(صفحه358)
«الصلاة عمود الدِّين»(1) أو «معراج المؤمن»(2) و«الصوم جنّة من النار»(3) إلىغير ذلك.
فإنّ هذه الآثار آثار العبادة الصحيحة فقط، وتقدير وصف الصحّة بحيثيصير المعنى «الصلاة الصحيحة عمود الدِّين» وهكذا، خلاف الظاهر(4).
وفيه: أنّ غاية ما يدلّ عليه هذه الأخبار هو استعمال الصلاة والصوم فيالصحيح منهما، والاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز، فعلى المحقّق الخراساني رحمهالله إثبات كون الاستعمال فيها بنحو الحقيقة، وأنّى له بإثباته؟!
إن قلت: يكفي في إثباته عدم إقامتهم عليهمالسلام قرينة على المجازيّة.
قلت: يغنيهم عليهمالسلام علم المتشرّعة بكون ما ذكر من الأوصاف آثار الصلاةوالصوم الصحيحين عن إقامة قرينة اُخرى.
وبالجملة: لا إشكال في أنّ المستعمل فيه في هذه الأخبار هو الصحيح منالصلاة والصوم، لكن كما يحتمل كون الاستعمال بنحو الحقيقة، يحتمل أيضاً أنيكون ما وضعا له هو الأعمّ من الصحيح والفاسد، فيكون من قبيل استعمالاللفظ الموضوع للعامّ في الخاصّ مجازاً، ويكتفى في إقامة القرينة على علم أهلالشرع بأنّ الخواصّ المذكورة آثار خصوص الصحيح منهما.
وللاستدلال بهذه الأخبار تقريب آخر، وهو أنّها ظاهرة في أنّ كلّ ميسمّى باسم الصلاة عمود الدِّين، ومعراج المؤمن، وهكذا، مع أنّا نعلم بعدمترتّب هذه الآثار على الصلاة الفاسدة، فالأمر دائر بين خروجها عن هذه
- (1) وسائل الشيعة 4: 27، كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، الحديث 12.
- (2) بحار الأنوار 79: 303، كتاب الصلاة، الباب 4 باب أنّ للصلاة أربعة آلاف باب، ذيل الحديث 2.
- (3) وسائل الشيعة 10: 397، كتاب الصوم، الباب 1 من أبواب الصوم المندوب، الحديث 8 .