(صفحه388)
في الاشتراك
الأمر الحادي عشر
في الاشتراك
والكلام فيه يقع تارةً في إمكان الاشتراك ووجوبه وامتناعه، واُخرى فيمنشأ وقوعه، وثالثةً في استعمال المشترك في الكتاب العزيز.
في امكان الإشتراك وعدمه
أمّا الجهة الاُولى: ففيها ثلاثة أقوال:
الأوّل: ضرورة وقوع الاشتراك، واستدلّ له بأنّ الألفاظ والتراكيب المؤلّفةمنها متناهية، والمعاني الموجودة في الواقع ونفس الأمر غير متناهية، فالحاجةإلى تفهيم جميع المعاني تستدعي لزوم الاشتراك، لئلاّ يبقى معنى بلا لفظ دالّعليه.
وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمهالله بوجهين:
أ ـ أنّه يمتنع الاشتراك في هذه المعاني، لاستدعائه الأوضاع الغير المتناهية،ضرورة أنّ مقدار الوضع تابع لمقدار المعنى، فإذا كانت المعاني غير متناهيةكانت الأوضاع أيضاً كذلك، فلا يمكن صدورها من الواضع المتناهي وهوالإنسان الممكن.
ج1
فإن قلت: يمكن أن يكون الواضع هو الواجب تعالى.
قلت: تحقّق الأوضاع الغير المتناهية وإن كان على هذا الفرض ممكناً ذاتاً،إلاّ أنّ غرض الوضع هو التفهيم والتفهّم بسهولة، فمقداره تابع لمقدار الحاجةإلى الاستعمال، وهو متناهٍ، وما زاد عليه لغو مستحيل في حقّه تعالى.
فالوضع للمعاني الغير المتناهية كما يستحيل بلحاظ تناهي الألفاظ كذلكيستحيل بلحاظ نفس الوضع أيضاً(1).
هذا حاصل كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في الوجه الأوّل.
وهو مع كونه متيناً في نفسه يمكن أن يناقش فيه بناءً على ما ذهب إليه فيمبحث أقسام الوضع من إمكان(2) الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، فإنّه منمصاديق الاشتراك اللفظي قطعاً، لتكثّر المعاني فيه، مع أنّ الوضع فيه واحد،فليس مقدار الوضع تابعاً لمقدار المعنى.
ب ـ أنّ المعاني الكلّيّة كالواجب والممتنع والممكن متناهية، وجزئيّاتها وإنكانت غير متناهية، إلاّ أنّ وضع الألفاظ بإزاء كليّاتها يُغني عن وضع لفظبإزائها كما لا يخفى(3).
الثاني: امتناع وقوعه، واستدلّ عليه بوجوه:
1ـ أنّ الاشتراك مخلّ بالتفهيم المقصود من الوضع، لخفاء القرائن، والإخلالبه مخلّ بالحكمة.
وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمهالله أوّلاً: بمنع الإخلال، لإمكان الاتّكال علىالقرائن الواضحة، وثانياً: بمنع كونه مخلاًّ بالحكمة، لتعلّق الغرض بالإجمال
- (2) خلافاً لما اخترناه. منه مدّ ظلّه.
(صفحه390)
أحياناً(1).
وحاصله: أنّ المتكلّم إن كان بصدد بيان تمام مراده أقام قرينة واضحة علىالمعنى المراد من اللفظ المشترك فيصير المعنى بيِّناً، وإن كان بصدد الإجمالوبيان بعض مراده فلم يقم قرينة أصلاً، ولا ضير في إجمال اللفظ وإهمالهحينئذٍ، فأين الاتّكال على القرائن الخفيّة؟!
2ـ أنّ الوضع جعل اللفظ مرآةً للمعنى، فلابدّ من سرعة الانتقال منه إليهبحيث لا يبقى للسامع حالة تحيّر وتردّد بعد استماع اللفظ، كما أنّ الناظر فيالمرآة يرى ما انعكس فيها ولا يبقى له تردّد وتحيّر أصلاً، وهذا المعنى للوضعلا يلائم الاشتراك كما هو واضح.
وفيه: أنّ الوضع عبارة عن جعل اللفظ علامةً للمعنى لا مرآةً له، فإنّالمرآتيّة مربوطة بمقام الاستعمال، حيث إنّ المستعملين لا يلاحظون الألفاظ إلبنحو المرآتيّة، حتّى كأنّهم يلقون المعاني إلى المخاطب، وكذلك المخاطب ليلاحظ اللفظ إلاّ مرآةً للمعنى، حتّى كأنّه يتلقّى المعنى بنفسه، بخلاف مقامالوضع، فإنّ الواضع يلاحظ كلاًّ من اللفظ والمعنى بالأصالة، ثمّ يجعله علامةله، ولا إشكال في كون شيء علامة لشيئين أو أكثر، ولعلّ هذا المستدلّ خلطبين مقامي الوضع والاستعمال، فتخيّل أنّ المرآتيّة مربوطة بمقام الوضع.
3ـ أنّ الوضع عبارة عن جعل الملازمة بين اللفظ والمعنى، ولو أمكنالاشتراك لكان بين اللفظ المشترك وكلّ واحد من معانيه ملازمة، وهذيستلزم الملازمة بين نفس المعاني وعدم انفكاك بعضها عن بعض عند سماعاللفظ، وهذا واضح البطلان.
ج1
وفيه: ما تقدّم من أنّ الوضع عبارة عن جعل اللفظ علامة للمعنى، وقدعرفت فساد القول بالملازمة في مسألة حقيقة الوضع(1).
فثبت القول الثالث، وهو أنّ وقوع الاشتراك أمر ممكن، ولا يكونضروريّاً ولا مستحيلاً، بل لا ينبغي إنكار وقوعه في كلام العرب، فإنّ لفظالعين والقرء ونحوهما من الألفاظ المشتركة.
في منشأ وقوع الاشتراك
وأمّا الجهة الثانية: فما قيل أو يمكن أن يقال فيها وجوه ثلاثة:
الأوّل: أنّ منشأ وقوع الاشتراك هو الاختلاف بين القبائل أو البلاد، فإنّأهل قبيلة أو بلد وضعوا لفظ العين مثلاً للعين الباكية وأهل قبيلة اُخرى أوبلد آخر وضعوه للعين الجارية، وأهل قبيلة ثالثة أو بلد ثالث وضعوه لمعنىآخر، ثمّ اللغويّون تتبّعوا اصطلاحات القبائل والبلاد في معاني الألفاظفوجدوا بعضها مشتركاً بين معنيين أو أكثر.
الثاني: أنّ غرض الواضع من الوضع كما يتعلّق بتفهيم تمام المراد وتفهّمهبسهولة قد يتعلّق أيضاً غرضه بتفهيم المراد وتفهّمه إجمالاً، فيضع لفظاً واحدلمعنيين أو أكثر ليستعمله المتكلِّم بدون قرينة عند إرادة الإجمال، فصيرورةالكلام مجملاً بالاشتراك لا تكون دليلاً على امتناعه، بل تكون علّةً لوقوعه.
الثالث: أنّه قد يصير اللفظ بسبب كثرة الاستعمال في المعنى المجازيمستغنياً عن القرينة، فيصير معناً حقيقيّاً تعيّنيّاً من دون أن يهجر معناهالحقيقي التعييني، فيصبح اللفظ مشتركاً بينهما.
(صفحه392)
استعمال المشترك في الكتاب العزيز
وأمّا الجهة الثالثة ـ أعني استعمال المشترك في القرآن ـ : فقال بعضهمبامتناعه وإن كان ممكناً في لغة العرب، لأنّه يستلزم التطويل بلا طائل معالاتّكال على القرائن والإجمال في المقال لو لا الاتّكال عليها، وكلاهما غيرلائق بكلامه تعالى جلّ شأنه كما لا يخفى.
وفيه أوّلاً: أنّ أدلّ دليل على إمكان استعمال المشترك في القرآن وقوعه فيقوله تعالى: «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ»(1) فإنّ القرء مشتركبين الطهر والحيض، وقوله تعالى: «فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ»(2) وقوله تعالى: «وَلَهُمْأَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا»(3) وغيرها من الآيات.
وثانياً: أنّ الاتّكال على القرينة لا يستلزم التطويل إذا أتى بها لغرض آخرغير القرينيّة، على أنّه يمنع كون الإجمال غير لائق بكلامه تعالى مع كونه ممّيتعلّق به الغرض، وإلاّ لما وقع المشتبه في كلامه، وقد أخبر في كتابه الكريمبوقوعه فيه، قال اللّه تعالى: «مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُمُتَشَابِهَاتٌ»(4)، وهل يكون المتشابه غير المجمل؟!
هذا تمام الكلام في الاشتراك.