جريان الاستصحاب في الموارد المشكوكة التي لها حالة سابقة، وأصالةالطهارة والحلّيّة في الأشياء المشكوكة طهارتها ونجاستها أو حلّيّتها وحرمتها،وأمّا إجراء هذه الاُصول المفتى بها في مواردها الجزئيّة فهو وظيفة المقلّد، لأنّهالشاكّ فيها، بخلاف ما يجري في الحكم الكلّي، فإنّ المجتهد هو الذي يشكّ فيهبعد الفحص واليأس عن الدليل، فإجراء الاُصول فيه من وظائفه لا منوظائف المقلّد، وهذا من خواصّ المسألة الاُصوليّة.
هذه مقالة جمع كثير من الاُصوليّين منهم الشيخ الأنصاري والمحقّقالخراساني رحمهماالله ، وللبحث عن صحّته وفساده محلّ آخر.
إنّ الاستنباط لا يصدق إلاّ فيما إذا كان لنا أمران متغايران: أحدهما هوالمستنبط، والآخر هو المستنبط منه، كما إذا قام خبر الواحد مثلاً على وجوبصلاة الجمعة نقول: استنبطنا وجوبها من خبر الواحد، فكلمة الاستنباط فيالتعريف تدلّ على أنّ القواعد الممهّدة غير الأحكام الشرعيّة المستنبطة منها،مع أنّ إجراء الاُصول العمليّة لإثبات الأحكام الكلّيّة أو نفيها ليس كذلك،لأنّا إذا تمسّكنا لوجوب صلاة الجمعة بقوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» مثلفهذا من قبيل تطبيق الكلّي على المصداق، ولا يسمّى هذا استنباطاً، ألا ترىأنّ المولى إذا قال: «أكرم كلّ عالم» لا يصحّ أن يقول العبد: إنّي استنبطتوجوب إكرام زيد العالم من كلام المولى.
فعلى هذا تعريف المشهور المشتمل على كلمة الاستنباط لا يشمل مسائلالاُصول العمليّة في الشبهات الحكميّة مع كونها من مهمّات الاُصول.
2ـ مذهب المحقّق الخراساني رحمهالله في تعريف علم الاُصول
ولأجل هذين الإشكالين عدل صاحب الكفاية من تعريفهم وقال:
الاُولى تعريفه بأنّه «صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريقاستنباط الأحكام أو التي ينتهى إليها في مقام العمل»(1).
ومسألة حجّيّة الظنّ على الحكومة وهكذا مسائل الاُصول العمليّة فيالشبهات الحكميّة داخلتان في الشقّ الثاني من هذا التعريف، فإنّ المجتهد وإن لميستنبط بهما الأحكام الشرعيّة، لكنّه يتمسّك بهما في مقام العمل عند فقدالدليل واضطراره إلى العمل.
البحث حول كلام المحقّق الخراساني رحمهالله
وقال سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه»: وظنّي أنّ هذا التعريف أسوءالتعاريف المتداولة، ثمّ استشكل عليه بوجهين:
أحدهما: أنّ الصناعة لا تستعمل إلاّ في العلوم العمليّة والحرف التي لها أثرمحسوس، كالنجارة والخياطة، ولا يصحّ إطلاقها على مثل علم الاُصول، ولذيقال في التعبيرات: العلم والصنعة.
ثمّ إنّ مفاد هذا التعريف تغاير علم الاُصول مع مسائله وأنّ معرفتها تكونبتوسّطه، فعلم الاُصول على هذا التعريف لا ينطبق إلاّ على مبادئ المسائل،مع أنّه لم يذهب أحد إلى أنّ العلم هو المبادئ فقط، بل هو إمّا نفس المسائل أوهي مع مباديها.
الثاني: أنّه لا يكون مانعاً، لشموله بعض القواعد الفقهيّة، كقاعدة «كلّ م
ج1
يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» فإنّه قاعدة تقع في طريق استنباط حكمالمقبوض بالبيع الفاسد مثلاً وأنّه يضمن(1).
لكن يمكن الجواب عنه بأنّ استنتاج الحكم بالقواعد الفقهيّة ليس من قبيلالاستنباط، بل من قبيل تطبيق الكلّي على المصداق، فإنّا نقول مثلاً: البيع ميضمن بصحيحه، وكلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، فالبيع يضمنبفاسده، وقد عرفت أنّ تطبيق الكلّي على المصداق لا يسمّى استنباطاً.
ويرد على صاحب الكفاية إشكالان مهمّان آخران:
الأوّل: ما أورده عليه المحقّق الشيخ محمّد حسين الاصفهاني(2) رحمهالله فيحاشيته على الكفاية، وهو أنّه إن كان للأمرين المأخوذين في التعريف«1ـ القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام، 2ـ القواعد التيينتهى إليها في مقام العمل» جامع، فالحقّ أخذه في التعريف، ولا يصحّ العدولعنه إلى ذكر مصداقيه، وإن لم يكن لهما جامع فهل يترتّب عليهما غرض واحدأو غرضان؟
الأوّل: مستحيل، لامتناع ترتّب أثر واحد على أمرين مستقلّين ليشتركان في شيء أصلاً كما ذكره كراراً في الكفاية، والثاني: ذهب هو رحمهالله إلىبُعده بل استحالته وقوعاً فيما سبق(3).
هذا حاصل ما أورده المحقّق الاصفهاني رحمهالله على صاحب الكفاية مع توضيح
- (2) المحقّق الاصفهاني رحمهالله كان من أجلاّء تلامذة المحقّق صاحب الكفاية ودوّن جلّ الحواشي عليها فيحياة مؤلّفها المحقّق الخراساني رحمهالله بدليل أنّه كثيراً ما يقول ـ على ما في النسخ الأوّليّة من الحاشية ـ : «قولهدام ظلّه». منه مدّ ظلّه.
(صفحه92)
منّا(1).
وهو إشكال متين.
ولا بأس بالنظر إلى أنّه هل يمكن في المقام تصوير جامع بين الأمرين بحيثلو أخذه صاحب الكفاية مكانهما في التعريف لسدّ باب هذا الإشكال أم لا؟
إنّ ما يمكن أن يُقال بكونه جامعاً أمران:
أ ـ «القواعد التي توجب تعيّن الوظيفة في مقام العمل».
ب ـ «القواعد التي ترفع التحيّر في مقام العمل».
فإنّ كلاًّ منهما يعمّ القواعد التي تقع في طريق الاستنباط، والتي ينتهى إليهفي مقام العمل، ضرورة أنّ ارتفاع التحيّر وكذلك تعيّن الوظيفة تارةً يتحقّقبمثل خبر زرارة وظاهر الكتاب، واُخرى بمثل الظنّ الانسداديوالاستصحاب، ففي يوم الجمعة يتعيّن وظيفة المكلّف ويرفع تحيّره إمّا بقيامخبر العادل على وجوب صلاة الجمعة أو بجريان الاستصحاب كما لا يخفى.هذا ما يخطر بالبال في بدو الأمر.
لكنّ النظر الدقيق يقضي ببطلان كلا الجامعين، لأنّ كلاًّ منهما يعمّ القواعدالفقهيّة، مثل «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» فلا يكون مانعاً.
والحاصل: أنّه ليس هاهنا جامع مأمون من الإشكال، ولعلّ المحقّقالخراساني رحمهالله لأجل هذا عدل عن الجامع إلى ذكر مصداقيه.
الثاني: أنّ هذا التعريف لا يكون جامعاً على ما ذهب إليه المحقّقالخراساني رحمهالله في باب حجّيّة الأمارات الشرعيّة.
توضيح ذلك: أنّ المشهور قائل بأنّ معنى جعل الحجّيّة للأمارات من قبل