الشارع جعل حكم ظاهري مماثل لمؤدّاها، وإن كانت مخالفة للواقع.
ولكنّ المحقّق الخراساني رحمهالله قال في موارد من الكفاية: إنّ الحجّيّة في بابالأمارات الشرعيّة تكون بمعنى المنجّزيّة في صورة المصادفة للواقع والمعذّريّةفي صورة المخالفة، كما أنّه تكون حجّيّة القطع أيضاً بهذا المعنى، إلاّ أنّ الحاكمبها في القطع هو العقل وفي الأمارات هو الشرع(1)، فالأمارة توجب تنجّزالواقع عند الموافقة والعذر عند المخالفة من دون أن يجعل على طبق مؤدّاهحكم ظاهري، كما أنّ القطع أيضاً كذلك.
إذا عرفت هذا فنقول: هذا التعريف لا يشمل مثل خبر الواحد وسائرالحجج الشرعيّة، فإنّ خبر زرارة مثلاً إذا قام بوجوب صلاة الجمعة لا يحصللنا القطع بوجوبها، بل ولا الظنّ في كثير من الموارد التي قام بها خبر الواحدأو سائر الحجج الشرعيّة، فلا يستنبط بها الحكم الشرعي قطعاً ولا ظنّاً، فليشملها قوله: «القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام»، وليشملها أيضاً الشقّ الثاني من التعريف، لأنّ «القواعد التي ينتهى إليها في مقامالعمل» هي القواعد التي يرجع إليها بعد الفحص واليأس عن العلم والعلمي،كالاُصول العمليّة، فإنّ كونها منتهى إليها في مقام العمل نظير كون الكيّ(2)آخر الدواء، والأمارات الشرعيّة ليست كذلك، إذ لا يناط حجّيّتها بالفحصواليأس عن دليل آخر على حكم الواقعة.
وبالجملة: يرد على ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله في تعريف علمالاُصول ـ مضافاً إلى ما أورد عليه المحقّق الاصفهاني ـ أنّه لا يكون جامعاً،
لاستلزامه خروج الحجج والأمارات الشرعيّة ـ على ما ذهب إليه في معنىحجّيّتها ـ مع سعة مباحثها في الاُصول وكونها من المهمّات، كما اعترف عنداستشكاله على صاحب الفصول في موضوع علم الاُصول بأنّ مسألة حجّيّةخبر الواحد من أهمّ المباحث الاُصوليّة.
3ـ مقالة المحقّق النائيني في تعريف علم الاُصول
وعرّفه المحقّق النائيني رحمهالله بأنّه عبارة عن «العلم بالكبريات التي لو انضمّتإليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي كلّي»(1).
ويرد عليه ـ مضافاً إلى عدم صحّة أخذ العلم في التعريف كما عرفت(2) ـ أنّهلا يكون مانعاً كما قال الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه»، لشموله بعض القواعدالفقهيّة(3).
توضيح ذلك أنّ القواعد الفقهيّة على قسمين:
أ ـ ما هو بمنزلة النوع، فيكون تحته أفراد ومصاديق جزئيّة، مثل «كلّ خمرحرام» حيث إنّ مصاديقه: «هذا الخمر حرام، ذلك الخمر حرام» وهكذا.
ب ـ ما هو بمنزلة الجنس، فيكون تحته أنواع، مثل «كلّ ما يضمن بصحيحهيضمن بفاسده» حيث إنّ تحته أنواعاً كلّيّة، كالبيع.
وتعريف المحقّق النائيني رحمهالله يعمّ هذا القسم الثاني من القواعد الفقهيّة، لأنّقاعدة «كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» مثلاً لو انضمّ إليها قولنا:«البيع يضمن بصحيحه» نستنتج منهما أنّ البيع يضمن بفاسده، وهو حكم
- (1) فوائد الاُصول 1 و 2: 19.
ج1
فرعي كلّي، لتعدّد أفراد البيع الفاسد.
نعم، هو لا يعمّ القسم الأوّل منها، لأنّا إذا قلنا: «هذا خمر، وكلّ خمر حرام»نستنتجمنهماأنّ «هذاحرام» وهوحكمجزئيخارج عنتعريفالمحقّقالنائيني رحمهالله .
فما ذهب إليه في تعريف علم الاُصول لا يكون مانعاً.
بل لا يكون جامعاً أيضاً، لعدم شموله مثل البحث عن أنّ هيئة «إفْعل» هلهي ظاهرة في الوجوب أم لا(1)؟ لأنّا إذا قلنا بكونها ظاهرة في الوجوبوضممنا إليه أنّ هيئة القتل مثلاً في قوله تعالى: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ»(2) هيهيئة افعل، لايستنتج منهما حكم شرعي، بل يستنتج أنّ هيئة القتل في هذهالآية ظاهرة في الوجوب، ولابدّ لاستنتاج وجوب قتل المشركين من ضمّمسألة اُصوليّة اُخرى إليها، وهي مسألة حجّيّة الظواهر.
4ـ مذهب المحقّق العراقي رحمهالله حول تعريف علم الاُصول
ومثله في الضعف ما ذكره المحقّق العراقي رحمهالله ـ على ما قرّره الشيخ محمّد تقيالبروجردي رحمهالله الذي فاق في أمر التقرير سائر المقرّرين ـ وهو أنّ علم الاُصول«هو القواعد التي توجب تشخيص الحكم الشرعي أو التي ينتهى إليها في مقامالعمل أو التي يتّضح بها كيفيّة تعلّق الحكم بموضوعه»(3).
وفرّع على هذا التعريف أنّ مباحث المشتقّ ونحوه من الأبحاث اللغويّةخارجة عن مسائل علم الاُصول، لكونها مباحث لغويّة محضة، فإنّ البحثعن كون المشتقّ مثلاً حقيقةً في خصوص المتلبّس بالمبدأ أو في الأعمّ منه وممّ
- (1) ولا ريب في كونه من المسائل الاُصوليّة، وإن كان من المسائل اللغويّة أيضاً. م ح ـ ى.
- (3) هذا التعريف يستفاد من مجموع كلامه رحمهالله من أوّله إلى آخره. منه مدّ ظلّه. راجع نهاية الأفكار 1 و 2: 18.
(صفحه96)
انقضى عنه، لا يعيّن الحكم الشرعي، ولا يوضح كيفيّة تعلّق الحكم بموضوعه،بل هو مسألة لغويّة، كسائر العناوين الواقعة في موضوعات الأحكام.
فكما نرجع إلى اللغة عند الشكّ في معنى الصعيد الواقع في آية التيمّم(1)لنعلم أنّه هل هو خصوص التراب الخالص، أو مطلق وجه الأرض؟ فكذلكلابدّ لنا من الرجوع إليها عند الشكّ في كون المشتقّ حقيقةً في خصوصالمتلبّس بالمبدأ أو في الأعمّ منه وممّا انقضى عنه، كي يتعيّن مثلاً حدّ معنىكلمة «المثمرة» الواقعة في حديث «نهى رسول اللّه صلىاللهعليهوآله أن يبول أحد تحتشجرة مثمرة»(2).
وبالجملة: فالأبحاث اللغويّة المحضة خارجة عن علم الاُصول.
وأمّا مثل مسائل العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد فداخلة فيه، حيث يتّضحبها كيفيّة تعلّق الحكم بموضوعه من العموم والخصوص والإطلاق والتقييد،فتدخل في الشقّ الثالث من التعريف.
نقد كلام المحقّق العراقي رحمهالله في المقام
ووجه ضعفه اُمور:
منها: ما يستفاد ممّا أورده الشيخ محمّد حسين الاصفهاني رحمهالله على صاحبالكفاية، من عدم الجامع بين الاُمور الثلاثة واستحالة تأثيرها بتكثّرها فيغرض واحد، وعدم ترتّب أغراض متعدّدة على علم واحد(3).
ومنها: ما قاله سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» من أنّه ما الفرق بين
- (1) النساء: 43، والمائدة: 6.
- (2) وسائل الشيعة 1: 327، كتاب الطهارة، الباب 15 من أبواب أحكام الخلوة، الحديث 10.
- (3) فإنّ المحقّق العراقي رحمهالله قائل بوحدة غرض العلم، كالمحقّق صاحب الكفاية. م ح ـ ى.
ج1
مباحث المشتقّ ونحوه وبين مبحث مفاد الأمر والنهي وكثير من مباحث العامّوالخاصّ والمطلق والمقيّد، كدلالة لفظة «كلّ» أو الجمع أو المفرد المحلّى باللامعلى العموم، ودلالة اسم الجنس أو علم الجنس أو النكرة على الإطلاق، بلجميع مباحث المفاهيم، حيث قال بخروج الطائفة الاُولى عن علم الاُصول،ودخول الثانية فيه، مع كون جميعها مباحث لغويّة؟! فإنّ تعيين معنى المشتقّوأنّه هل وضع لخصوص المتلبّس أو للأعمّ كما يكون من وظائف اللغوي،فكذلك تعيين معنى كلمة «كلّ» مثلاً وأنّه هل وضعت للدلالة على الاستغراقأم لا، يكون من وظائفه أيضاً(1).
ومنها: ما قاله أيضاً، من أنّه لا يكون مانعاً، لشموله القواعد الفقهيّة، حيثإنّها توجب تشخيص الحكم الشرعي في مواردها، فإنّ «كلّ ما يضمنبصحيحه يضمن بفاسده» مثلاً قاعدة توجب تشخيص الحكم الشرعي للبيعالفاسد، فيعمّها الشقّ الأوّل من التعريف، فلا يكون مانعاً(2).
5ـ كلام المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» في المقام
وعرّفه بعض الأعلام بأنّه «العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريقاستنباط الأحكام الشرعيّة الكلّيّة الإلهيّة من دون حاجة إلى ضميمة(3) كبرىاُصوليّة اُخرى إليها»(4).
- (3) في المحاضرات: «ضميمة كبرى أو صغرى» لكنّه سهو من المقرّر ظاهراً، لأنّ بعض الأعلام لا يشير فيمقام توضيح هذا القيد إلى الصغرى، على أنّ القاعدة الاُصوليّة لا تقع إلاّ كبرى قياس الاستنباط،فالصغرى الاُصوليّة لا ترجع إلى معنى معقول. منه مدّ ظلّه.
- (4) محاضرات في اُصول الفقه 1: 11.