ج1
كالوجود، فإنّ له ماهيّة مبهمة تدرك ولا توصف إلاّ بخواصّها(1) وآثارها.
هذا هو الطريق الوحيد لتصوير الجامع للصحيحي والأعمّي كليهما.
والفرق بينهما أنّ الصحيحي يقول بأنّ الجامع المسمّى ما له هذه الآثاروالخواصّ بالفعل، والأعمّي يقول بأنّه ما هو المقتضي لها، بمعنى أنّه لو كانواجداً لجميع الأجزاء والشرائط لأثّر فيها وإن لم يكن مؤثّراً بالفعل(2).
هذا حاصل كلام المحقّق الاصفهاني رحمهالله .
وهو ـ مع اشتماله على مطالب علميّة دقيقة ـ مردود، لاستلزامه عدم تمكّنالمتشرّعة من توصيف الصلاة مثلاً قبل نزول الآيات وصدور الروايات المبيّنةلآثارها وخواصّها، مع أنّهم إذا سئلوا عن معنى الصلاة كانوا متمكِّنين منبيانها حتّى قبل بيان خواصّها في الآيات والروايات، على أنّ هذه الآثار آثارالوجود الخارجي كما مرّ، فلا يمكن أن تكون مبيّنة للماهيّة.
كلام السيّد البروجردي رحمهالله في الجامع للصحيحي
وقال سيّدنا الاُستاذ البروجردي رحمهالله ـ وهو القائل بالصحيح ـ : إنّ الجامعبين الأفراد الصحيحة من الصلاة مثلاً توجّه خاصّ وتخشّع مخصوص منالعبد لساحة مولاه، فإليك بيانه:
إنّ جميع مراتب الصلاة مثلاً بما لها من الاختلاف في الأجزاء والشرائطتشترك في كونها نحو توجّه خاصّ وتخشّع مخصوص من العبد لساحة مولاه،يوجد هذا التوجّه الخاصّ بإيجاد أوّل جزء منها ويبقى إلى أن تتمّ، فيكون هذ
- (1) كتوصيفها بأنّها ما يمكن أن يخبر عنه. م ح ـ ى.
- (2) نهاية الدراية 1: 101.
(صفحه336)
التوجّه بمنزلة الصورة(1) لتلك الأجزاء المتباينة بحسب الذات، وتختلف كمالونقصاناً باختلاف المراتب.
والحاصل: أنّ الصلاة ليست عبارة عن نفس الأقوال والأفعال المتباينةالمتدرّجة بحسب الوجود حتّى لا يكون لها حقيقة باقية إلى آخر الصلاةمحفوظة في جميع المراتب، ويترتّب على ذلك عدم كون المصلّي في حالالسكونات والسكوتات المتخلّلة مشتغلاً بالصلاة، بل هي عبارة عن حالةتوجّه خاصّ يحصل للعبد ويوجد بالشروع فيها، ويبقى ببقاء الأجزاءوالشرائط، ويكون هذا المعنى المخصوص كالطبيعة المشكّكة، لها مراتبمتفاوتة تنتزع في كلّ مرتبة عمّا اعتبر جزءً لها.
لا أقول: إنّ هذا الأمر الباقي يوجد بوجود على حدة وراء وجوداتالأجزاء، حتّى يكون الأجزاء محصّلات له، بل هو بمنزلة الصورة لهذه الأجزاء،فهو موجود بعين وجودات الأجزاء، فيكون الموضوع له للفظ الصلاة هذهالعبادة الخاصّة والمعنى المخصوص، ويكون هذا المعنى محفوظاً في جميع المراتب،فيكون وزان هذا الأمر الاعتباري وزان الموجودات الخارجيّة، كالإنسانونحوه، فكما أنّ طبيعة الإنسان محفوظة في جميع أفراده المتفاوتة بالكمالوالنقص، والصغر والكبر، ونقص بعض الأجزاء وزيادته، ما دامت الصورةالإنسانيّة محفوظة في جميع ذلك، فكذلك طبيعة الصلاة...
ومثل هذا المعنى يمكن أن يفرض في سائر العبادات أيضاً من الصوم والحجّونحوهما(2).
- (1) وبعبارة اُخرى: هذا الخشوع الخاصّ بمنزلة صورة الصلاة وتلك الأجزاء بمنزلة مادّتها، وشيئيّة الشيءوحقيقته بصورته كما قال الحكماء. منه مدّ ظلّه.
ج1
إنتهى كلامه رحمهالله .
ويمكن أن يتأيّد أوّلاً: بتسمية التكبيرة الاُولى في الصلاة بتكبيرة الإحرام،وبما ورد في بعض الأخبار من أنّ «تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم»(1)فإنّهما يشعران بأنّ الصلاة حالة خاصّة ينافيها بعض الأعمال، كالتكلّموالضحك والبكاء، فتحرم بمجرّد الدخول في الصلاة، وتبقى حرمتها إلى أنيتحقّق المحلّل، إذ لو كانت نفس الركوع والسجود وسائر الأجزاء فلا ينافيههذه الأعمال.
وثانياً: بأنّا نقول: «فلان شرع في الصلاة» لمن اشتغل بأوّل جزء منها،و«هو فيها» لمن كان في أثنائها، و«فرغ منها» لمن أتى بآخر جزئها، إذ لو كانتالصلاة مركّبة من الأجزاء لم تصحّ هذه التعبيرات، لعدم وجود الصلاة إلاّ بعدتحقّق جميع أجزائها، كسائر المركّبات.
نقد نظريّة الاُستاذ البروجردي رحمهالله حول الجامع
ولكن فيه أوّلاً: أنّه لا يعقل أن يتحقّق الصورة إلاّ بعد تحقّق جميع موادّه،فكيف يمكن أن يتحقّق الخشوع الخاصّ في أوّل الصلاة مع كونه بمنزلة الصورةوالأجزاء بمنزلة المادّة؟
وثانياً: أنّه خلاف فهم العرف، فإنّهم يرون أنّ الصلاة نفس هذه الأجزاءوالشرائط.
وأمّا ما ذكرناه من التأييد فيمكن أن يُجاب عنه بأنّ الشارع جعل للصلاةـ مع كونها مركّبة من مقولات مختلفة ـ وحدةً اعتباريّة كما تقدّم، فينافيه
- (1) مستدرك الوسائل 4: 136، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب تكبيرة الإحرام، الحديث 7.
(صفحه338)
ما عدّه قاطعاً لها مثل التكلّم والضحك والبكاء، فلذلك تكون هذه الأعمالمحرّمة على المصلّي، ولو سلّم ظهور تلك الأخبار في أنّ الصلاة حالة خاصّةغير الأجزاء فلابدّ من حملها على خلاف الظاهر بقرينة ما سبق من فهمالعرف.
وأمّا صدق قولنا: «فلان شرع في الصلاة» وأمثاله فهو لكون الصلاة مركّبةمن الأجزاء المتدرّجة الوجود، لا لأنّها أمر سوى الأجزاء يوجد بالشروعفيها ويبقى إلى أن تتمّ، على أنّ هذا خلاف ما يفهم العرف من الصلاة كما تقدّم.
تصوير الجامع من قبل الإمام«مدّ ظلّه»
بقي الكلام في الجامع الذي صوّره سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه»، فإنّهقال:
وأمّا المختار فيتوقّف بيانه على تقديم مقدّمة، وهي:
أنّ محطّ البحث للأعلام إنّما هو تصوير جامع كلّي قابل للانطباق علىالأفراد المختلفة كيفاً وكمّاً، فحينئذٍ مرتبة فرض الجامع متقدّمة على مرتبةعروض الصحّة والفساد عليه، لما عرفت سابقاً من أنّهما من عوارض وجودالعبادات خارجاً.
وتوهّم كونهما من الاُمور الإضافيّة بحيث يجوز أن تكون ماهيّة صحيحةمن حيثيّة وفاسدة من اُخرى كما ترى، بل هما من الاُمور المتضادّة وبينهمتقابل التضادّ كما مرّ. نعم، ربما يكون ماهيّة موجودة من الطبائع الحقيقيّةبعضها فاسد بقول مطلق وبعضها صحيح كذلك، وذلك مثل البطّيخ الذي فسدنصفه وبقى الآخر صحيحاً، ولكنّ الصلاة إذا فقدت بعض أجزائها أو شرائطهلا تتّصف بالصحّة والفساد لا بهذا المعنى ولا بالمعنى الإضافي، بل هذه الصلاة
ج1
الموجودة مع فقدان بعض شروطها أو وجود بعض موانعها فرد من الصلاةعرضها الفساد فقط في الخارج، وليست بصحيحة، كما أنّها لا تكون صحيحةمن جهة وفاسدة من اُخرى، ولا صحيحة في النصف وفاسدة في النصفالآخر.
ومن ذلك يظهر لك أنّ بعض ما هو من الشرائط ويكون دخيلاً في اتّصافهبالصحّة خارجاً، غير داخل في محطّ البحث، لما عرفت من أنّ البحث فيالمرتبة المتقدّمة على الوجود الخارجي، وما يعرضه من الصحّة ومقابلها. وعلىهذا لا مناص عن الاعتراف بكون الموضوع له أمراً ينطبق على مقالةالأعمّي، لما علمت من أنّ الماهيّة التي وضعت لها لفظ «الصلاة» إذا وجدت فيالخارج مجرّدة عن تلك الشرائط التي عرفت خروجها عن الموضوع له،تتّصف لا محالة بالفساد، ولا يمكن اتّصافها بالصحّة في هذا الحال، فلا تكونالماهيّة الموضوع لها الصلاة متّصفة في الخارج بالصحّة دائماً، وهذا بعينه مقالةالأعمّي وإن كان لفظه قاصراً عن إفادته.
وقد تقدّم أنّ النزاع ليس في وضع هذه الألفاظ لمفهومي الصحيح والأعمّ،ولا للماهيّة المتقيّدة بمفهوم الصحّة، بل لا يمكن الوضع لماهيّة ملازمة لها، لأنّمفهوم الصحّة وحقيقتها غير لازمين للماهيّة، لأنّها من عوارض الوجود، كمأنّه لا يمكن وضعها لماهيّة إذا وجدت في الخارج كانت صحيحة، لما عرفتآنفاً من خروج بعض شروط الصحّة من حريم النزاع، فظهر من ذلك كلّه أنّالماهيّة الموضوع لها الصلاة لا تكون ملازمة للصحّة، وكذلك سائر ما أشبهها،فلا مجال حينئذٍ للنزاع إلاّ مع إلغاء عنواني «الصحيح» و«الأعمّ» ويقال: هلالألفاظ موضوعة لماهيّة تامّة للأجزاء والشرائط الكذائيّة أو ما هو ملازم لهأو لا، ولعلّ نظر القوم ذلك، لكن تخلّل الصحيح والأعمّ لسهولة التعبير، فتدبّر.