(صفحه102)
وتردّد مفهومه بين الأقلّ والأكثر، كما لو تردّد مفهوم «الفاسق» الخارج عنعموم «أكرم العلماء» بين أن يكون خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعمّ منهومن مرتكب الصغيرة، وأمّا إذا كان الخارج عن العموم عنواناً ذا مراتبمختلفة وعلم بخروج بعض مراتبه عن العامّ وشكّ في خروج بعض آخر،فإجمال المخصّص وتردّده بين خروج جميع المراتب أو بعضها لا يسري إلىالعامّ، لأنّ الشكّ في مثل هذا يرجع في الحقيقة إلى الشكّ في ورود مخصّصآخر للعامّ غير ما علم التخصيص به.
والحاصل: أنّه فرق بين التخصيص بما لا يكون ذا مراتب والتخصيص بميكون ذا مراتب، فإنّ إجمال الأوّل وتردّده بين الأقلّ والأكثر يمنع عن التمسّكبالعامّ إذا كان متّصلاً به، وإجمال الثاني وتردّده بين أن يكون الخارج مرتبةًخاصّة من مراتبه وبين أن يكون مرتبتين أو أكثر لا يسري إلى العامّ ولا يمنععن التمسّك به فيما عدا المرتبة المتيقّن خروجها ولو كان المخصّص متّصلاً بالعامّ،والتخصيص فيما نحن فيه يكون من قبيل الثاني، فإنّ بعض مراتب الخروج عنمورد الابتلاء ممّا يعلم بخروجه عن عمومات أدلّة المحرّمات، كالخمر الموجودفي أقصى بلاد الهند، فإنّه يعلم بخروجه عن مورد الابتلاء واستهجان النهيعنه، وبعض مراتب الخروج عن مورد الابتلاء ممّا يشكّ في استهجان النهيعنه وخروجه عن العمومات، والشكّ في ذلك لا يوجب إجمالها ولا يمنع عنالتمسّك بها (1).
هذا ما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله توضيحا لكلام الشيخ الأعظم الأنصاريلإثبات وجوب الاحتياط في المقام.
نقد ما أفاده الشيخ والمحقّق النائيني رحمهماالله في ذلك
ج5
وفيه أوّلاً: أنّ إجمال المخصّص اللبّي يسري إلى العامّ، ولو كان نظريّا،ضرورة أنّه بعد النظر يكشف العقل عن أنّ الخطاب من الأوّل غير متوجّه إلىالخارج عن محلّ الابتلاء، ففرق بين ورود المخصّص منفصلاً، وبين الغفلة عنالواقع والعلم بمحدوديّة الخطاب وتقييده من أوّل الأمر، وهذا نظير كشفالقرينة اللفظيّة الحافّة بالكلام بعد حين.
وبالجملة: إذا علم بعد النظر أنّ الخطاب لا يتوجّه إلى العاجز من أوّلالأمر، وأنّ الخارج عن محلّ الابتلاء خارج، والخطاب محدود بالداخل في محلّالابتلاء، يسري الإجمال بلا إشكال.
لا يقال: فعلى هذا يسري إجمال المخصّص اللفظي المنفصل أيضاً إلىالعامّ،لأنّ الإرادة الجدّيّة من الأوّل لم تتعلّق إلاّ بما عدا مورد الخاصّ، فإذا قالالمولى: «أكرم العلماء» ثمّ قال بدليل منفصل: «لا تكرم الفسّاق من العلماء»تعلّقت إرادته الجدّيّة من البداية بوجوب إكرام العالم الذي لا يكون فاسقا،فإذاشككنا في فاسقيّة مرتكب الصغيرة، شككنا في أنّه هل يكون منمصاديق «العالم الذي لا يكون فاسقا» كي يدخل تحت العامّ، أو لا يكون منمصاديقه كي يخرج من تحته.
وبالجملة: لا فرق هاهنا بين المخصّص اللبّي وبين المخصّص المنفصل اللفظي،فلو كان إجمال الأوّل يسري إلى العامّ لكان إجمال الثاني أيضاً يسري إليه.
فإنّه يقال: بين المقامين فرق يتّضح ببيان الفرق بين المخصّص اللفظي المتّصلوالمنفصل، فنقول:
لا ريب في كون المراد الجدّي من العامّ هو غير مورد الخاصّ، سواء كانمتّصلاً أو منفصلاً.
وإنّما الفرق بينهما في الإرادة الاستعماليّة، فإنّ العقلاء ـ الذين يسلك الشارع
(صفحه104)
مسلكهم في التفهيم والتفهّم ـ تارةً: يريدون بيان قانون يرجع إليه في مواردالشكّ في التخصيص(1)، فحينئذٍ تتعلّق إرادتهم الاستعماليّة(2) بالعموم، ثمّيبيّنون الموارد الخاصّة التي أرادوا إخراجها عن تحت العموم بأدلّة منفصلة،فالعامّ استعمل في العموم وانعقد له ظهور فيه، والمخصّص المنفصل كاشف عنتغاير الإرادة الاستعماليّة مع الجدّيّة من دون أن يكشف عن عدم ظهور العامّفي العموم، فالعامّ هو المرجع في موارد الشكّ في التخصيص.
واُخرى: يريدون تضييق دائرة الخطاب من بداية الأمر، فحينئذٍ يعبّرونبمخصّص متّصل، مثل «أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم» فالإرادة الاستعماليّةـ كالجدّيّة ـ تختصّ بغير مورد الخاصّ، ولا ينعقد للعامّ ظهور إلاّ فيه.
وبالجملة: ثمرة التخصيص بالمنفصل هي انعقاد الظهور للعامّ في العموم كييكون قاعدة كلّيّة يتمكّن العبد من الرجوع إليها في موارد الشكّ.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المخصّص العقلي النظري ليس كالمخصّص اللفظيالمنفصل، إذ لم يرد المولى فيه بيان قانون كلّي ليخرج الموارد الخاصّة فيما بعد،كالمخصّص اللفظي المنفصل، بل لم ينعقد للعامّ ظهور في العموم من بداية الأمر،لكنّ العبد كان يتخيّل ظهوره فيه، وبعد مرور زمان ينكشف له عدم انعقادالظهور له(3).
والحاصل: أنّه لا فرق بين المخصّص العقلي الضروري والنظري إلاّ منحيث سرعة انتقال الذهن إليه وبطؤه، وأمّا من حيث الأحكام فهم
- (1) وكذلك الأمر في موارد الإطلاق والتقييد. م ح ـ ى.
- (2) وهي عبارة اُخرى عن الإرادة القانونيّة. منه مدّ ظلّه.
- (3) وبعبارة اُخرى: المخصّص اللفظي المنفصل منفصل عن العامّ حقيقةً، فلا يمنع عن استقرار الظهور له،بخلاف المخصّص العقلي النظري، فإنّه لا ينفصل عن العامّ واقعا، فهو يمنع عن ظهوره، لكنّ العبد أخطوتخيّل قبل انتقال ذهنه إلى المخصّص أنّ العامّ ظاهر في العموم، مع أنّه لم يكن كذلك واقعا. م ح ـ ى.
ج5
كالمخصّصات اللفظيّة المتّصلة.
وثانيا: أنّ ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله من الفرق بين المخصّص الذي له عنوانواقعي غير ذي مراتب، وبين الذي له مراتب مختلفة، وجوّز التمسّك بالعامّفي الثاني حتّى في المخصّص المتّصل ـ لفظيّا أو لبّيّا ـ دون الأوّل، معلّلاً بأنّالشكّ في الثاني يرجع إلى التخصيص الزائد فيما عدا المراتب المتيقّنة.
ففيه: أنّه لم يتبيّن الفرق بين مفهوم «الفاسق» ومفهوم «الخارج عن محلّالابتلاء» حيث جعل الثاني مختلف المراتب دون الأوّل، مع أنّ الخروج عنطاعة اللّه له مراتب مختلفة: مرتبة منه ارتكاب الصغائر، ومرتبة اُخرى أشدّمنه، وهو ارتكاب الكبائر، ومرتبة ثالثة أشدّ منهما، وهو ارتكاب الموبقات،ونشكّ في مفهوم «الفاسق» أنّه مطلق الخارج عن طاعة اللّه أو الخارج عنهبمرتبة شديدة، كما أنّ البلاد مختلفة المراتب من حيث القرب والبُعد، فبعضها فيأقصى نقاط المغرب، وبعضها أقرب منه، ونشكّ في أنّ الخارج عن محلّالابتلاء هو البلاد النائية جدّا أو الأعمّ منها.
لكنّ هذا مناقشة في المثال.
والمناقشة الحقيقيّة في كلامه: هي أنّا لا نسلّم أنّ المخصّص إذا كان ذا مراتبوكانت مرتبة منه هي القدر المتيقّن ومرتبة اُخرى مشكوكة جاز التمسّك بالعامّفي المرتبة المشكوكة حتّى فيما إذا كان المخصّص متّصلاً، بدعوى أنّه من قبيلالشكّ في التخصيص الزائد.
وذلك لعدم تعدّد التخصيص كي يكون أحدهما متيقّنا والآخر مشكوكا،بل هو أمر واحد مردّد بين خصوص المرتبة القويّة المتيقّنة وبين شمولها لهوللمرتبة الضعيفة المشكوكة، فالمخصّص أمر واحد مردّد بين الأقلّ والأكثر،واتّصاله بالعامّ يمنع عن انعقاد الظهور له، كما يمنع عنه اتّصال المخصّص المردّد
(صفحه106)
بين المتباينين(1)، وذلك لأنّ انعقاد الظهور للكلام مشروط بفراغ المتكلّم عنه،فلا يكاد يستقرّله الظهور ما دام مشتغلاً به، فالمخصّص المتّصل قرينة لفظيّةمتّصلة بالكلام مانعة عن انعقاد الظهور له في العموم، ولا فرق في ذلك بينكونه ذا مراتب أو غير ذي مراتب؛ لأنّ تمام الملاك لعدم تحقّق الظهور للكلامهو اتّصال القرينة، لا اتّصال القرينة غير ذات المراتب.
والحاصل: أنّ ما ذكره الشيخ الأعظم لإثبات وجوب الاحتياط في مواردالشكّ في خروج بعض أطراف العلم الإجمالي عن محلّ الابتلاء، وما أفادهالمحقّق النائيني رحمهالله في توضيحه، غير تامّ.
كلام صاحب الكفاية رحمهالله في المقام
والمحقّق الخراساني رحمهالله بيّن ابتداءً ملاك «الابتلاء» ثمّ اختار البراءة في موردالشكّ فيه حيث قال:
إنّ الملاك في «الابتلاء» المصحّح لفعليّة الزجر(2) وانقداح طلب تركه فينفس المولى فعلاً هو ما إذا صحّ انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد معاطّلاعه على ما هو عليه من الحال، ولو شكّ في ذلك كان المرجع هو البراءة،لعدم القطع بالاشتغال، لا إطلاق الخطاب، ضرورة أنّه لا مجال للتشبّث به إلفيما إذا شكّ في التقييد بشيء بعد الفراغ عن صحّة الإطلاق بدونه، لا فيما شكّفي اعتباره في صحّته(3) تأمّل لعلّك تعرف إن شاء اللّه تعالى(4)، إنتهى كلامه رحمهالله .
- (1) كما إذا قال: «أكرم العلماء إلاّ زيدا» وشككنا في أنّه هل هو زيد بن عمرو أو زيد بن بكر. م ح ـ ى.
- (2) وأمّا الزجر إذا لم يكن فعليّا فلا يتوقّف صحّته على انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد، فيجوزللمولى الأمر بالاجتناب عن الصلاة في ما بيد زيد من الثوب النجس مقيّداً بقوله: «إن اتّفق لك الابتلاءبذلك بعارية أو ملك أو إباحة». م ح ـ ى.
- (3) والحقّ في العبارة ـ كما في حاشية المشكيني رحمهالله وأشار إليه أيضاً الاُستاذ المعظّم«مدّ ظلّه» ـ أن يقال: «لفيما شكّ في تحقّق ما يعتبر في صحّته» لأنّ الابتلاء لا شكّ في اعتباره، بل الشكّ في تحقّقه بعد القطعباعتباره في صحّة الإطلاق. م ح ـ ى.