ج5
فهذا الإشكال يتوجّه إلى نفس التكرار في أطراف العلم الإجمالي، سواءكان التكرار في العبادة أو في غيرها.
وفيه أوّلاً: أنّ التكرار وإن كان مستلزماً لسخريّة المولى واللعب بأمره فيالمثالين، إلاّ أنّه لا يعمّ، لأنّ المكلّف لو علم إجمالاً بنجاسة أحد ثوبيه، فصلّى فيكلّ منهما مع التمكّن من غسل أحدهما والإتيان بصلاة واحدة فيه لم يعدّ لاعببأمر المولى، لكون التكرار حينئذٍ لغرض عقلائي، لكونه أسهل من غسل أحدالثوبين والصلاة فيه، وكذا لو كان المجتهد شاكّاً في أنّ الواجب هل هو صلاةالجمعة أو الظهر فأتى بهما ـ مع التمكّن من الرجوع إلى المنابع والمآخذ والعلمالتفصيلي بالواجب ـ لم يعدّ أيضاً لاعباً بأمر المولى، لأنّ في التكرار غرضعقلائيّاً أيضاً، وهو أنّ الرجوع إلى المنابع لتحصيل العلم صعب غاية الصعوبة،سيّما في مثل الشكّ في وجوب صلاة الجمعة والظهر، ولكنّ التكرار سهل، علىأنّه مستلزم لدرك الواقع قطعاً، بخلاف الاجتهاد، فإنّه يمكن أن يخطأ فياجتهاده.
وبالجملة: التكرار لا يستلزم التلاعب بأمر المولى والاستهزاء بمقامه فيجميع الموارد، كما هو المدّعى.
وثانياً: لا يكون المكلّف لاعباً في الإتيان بأصل العمل، بل يأتي به لأجلأمر المولى بنحو لولا الأمر لم يأت به، ولكنّه لاعب في كيفيّته، وهو لا يوجبالبطلان، ولذا لو أتى بأصل العمل بداعي الأمر واتّبع في كيفيّته هواه ـ كالإتيانبالصلاة في مكان حارّ في الشتاء، وفي مكان بارد في الصيف ـ كانت العبادةصحيحة.
وبعبارة اُخرى: إنّ التكرار وإن كان مستلزماً للعب، إلاّ أنّه لا يرتبط بأمرالمولى، بل هو من مقارنات المأمور به، فلا يتحقّق بالتكرار اللعب بأمر المولى
(صفحه334)
الذي كان مدار الإشكال.
كيف يمكن قصد الوجه في موارد الاحتياط في العبادات؟
الثاني: ما يرد على التكرار في خصوص العبادات، وهو أنّه يعتبر في صحّةالعبادة قصد التقرّب والوجه، إمّا بنحو الغاية، كأن يقصد إتيان الصلاةلوجوبها، أو بنحو الوصف، كأن يقصد إتيان الصلاة الواجبة، وفي أطراف العلمالإجمالي لا يعلم بوجوب ما أتى به، ولا بكونه مقرّباً، فكيف يتمشّى منه قصدالتقرّب والوجوب؟ مثلاً عند دوران الواجب بين صلاة الجمعة والظهر لو أتىالمكلّف بهما لم يعلم بوجوب صلاة الجمعة ولا بمقرّبيّته كي يقصدهما، وهكذالأمر في الظهر.
وفيه: أنّه يكفي في تحقّق قصد الوجه وسائر ما يتعلّق بالنيّة احتمال التكليف،فلو قصد الوجه معلّقاً ـ بأن ينوي «إنّي اُصلّي صلاة الجمعة لوجوبها لو كانتواجبة» ـ لكفى.
إن قلت: لابدّ في العبادة من الجزم في النيّة وما يتعلّق بها، وهو لا يحصل إلمع العلم التفصيلي، فلا يجزي التعليق في النيّة.
قلت: لا دليل على لزوم الجزم في النيّة، لا عقلاً ولا شرعاً، لعدم صلاحيّةالعقل للحكم في مثل هذه المسألة، وعدم دلالة النقل عليه.
بل الدليل على خلافه على ما اخترناه في باب التعبّدي والتوصّلي، منإمكان التمسّك بإطلاق الأمر لرفع اعتبار قصد القربة إذا شككنا في كونالمأمور به تعبّديّاً أو توصّليّاً، فإنّا قلنا هناك: يمكن التمسّك بإطلاق الأمر لنفياعتبار النيّة ومتعلّقاتها لو شككنا في اعتبارها(1)، كما يمكن التمسّك بالإطلاق
- (1) راجع ص121 ـ 131 من الجزء الثاني.
ج5
لنفي الجزئيّة والشرطيّة المشكوكتين.
وفي المقام أصل لزوم النيّة معلوم، ولكنّ الجزم فيها مشكوكٌ فيه، فينفيهالإطلاق.
وأمّا على ما اختاره المحقّق الخراساني رحمهالله ، من عدم إمكان تحقّق الإطلاق فيالأمر بالنسبة إلى اعتبار النيّة ومتعلّقاتها ـ بدعوى أنّ الإطلاق لا يمكن أنيتحقّق إلاّ فيما يمكن التقييد، والتقييد هاهنا مستلزم للدور، لاستلزامه أخذ ملا يكاد يتأتّى إلاّ من قبل الأمر بشيء في متعلّق ذاك الأمر(1) ـ فلا يمكنالتمسّك بإطلاق الأمر في المقام لنفي الجزم في النيّة.
لكن لا مانع حينئذٍ من إجراء أصالة البراءة لنفيه.
والحاصل: أنّ الجزم في النيّة غير لازم، والشاهد على هذا أنّه يمكن قصدالوجه في الشبهات البدويّة بإقرار الخصم، مثلاً لو شكّ في وجوب صلاةبالشكّ البدوي فلا ريب في حسن الاحتياط بإتيانها، مع أنّه لا يعلم بوجوبها،فلا يمكن له قصد الوجه جزماً، فعلم أنّ الجزم لا يعتبر في النيّة ومتعلّقاتها، بليكفي تحقّقها معلّقةً.
وأمّا ما حكي عن السيّد الرضيّ رحمهالله من إجماع الإماميّة على بطلان صلاةمَن صلّى صلاة لا يعلم(2) أحكامها(3)، وما ادّعي أيضاً من الإجماع على بطلانعبادة من ترك طريقي الاجتهاد والتقليد وسلك طريق الاحتياط(4)، فهو إجماعمنقول لا يجوز التمسّك به، لعدم حجّيّته.
- (2) لابدّ من إرادة «البطلان في صورة إمكان العلم بأحكامها». منه مدّ ظلّه.
- (3) أنوار الهداية 2: 407.
- (4) أنوار الهداية 2: 406.
(صفحه336)
نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله في المسألة
قال المحقّق النائيني رحمهالله : يعتبر في حسن الاحتياط إذا كان على خلافه حجّةشرعيّة أن يعمل المكلّف أوّلاً بمؤدّى الحجّة، ثمّ يعقّبه بالعمل على خلاف ماقتضته الحجّة إحرازاً للواقع، وليس للمكلّف العمل بما يخالف الحجّة أوّلاً ثمّالعمل بمؤدّى الحجّة، إلاّ إذا لم يستلزم رعاية احتمال مخالفة الحجّة للواقعاستئناف جملة العمل وتكراره، كما إذا كان مفاد الحجّة عدم وجوب السورة فيالصلاة، فإنّ رعاية احتمال مخالفتها للواقع يحصل بالصلاة مع السورة، وليتوقّف على تكرار الصلاة، وإن كان يحصل بالتكرار أيضاً.
وهذا بخلاف ما إذا كان مفاد الحجّة وجوب خصوص صلاة الجمعة معاحتمال أن يكون الواجب هو خصوص صلاة الظهر، فإنّ رعاية احتمال مخالفةالحجّة للواقع لا يحصل إلاّ بتكرار العمل، وفي هذا القسم لا يحسن الاحتياطإلاّ بعد العمل بما يوافق الحجّة ولا يجوز العكس.
والسرّ في ذلك: هو أنّ معنى اعتبار الطريق: إلغاء احتمال مخالفته للواقععملاً وعدم الاعتناء به، والعمل أوّلاً برعاية احتمال مخالفة الطريق للواقع ينافيإلغاء احتمال الخلاف، فإنّ ذلك عين الاعتناء باحتمال الخلاف، وهذا بخلاف مإذا قدّم العمل بمؤدّى الطريق، فإنّه حيث قد أدّى المكلّف ما هو الوظيفةوعمل بما يقتضيه الطريق، فالعقل يستقلّ بحسن الاحتياط لرعاية إصابةالواقع.
هذا مضافاً إلى أنّه يعتبر في حسن الطاعة الاحتماليّة عدم التمكّن من الطاعةالتفصيليّة، وبعد قيام الطريق المعتبر على وجوب صلاة الجمعة يكون المكلّفمتمكِّناً من الطاعة والامتثال التفصيلي بمؤدّى الطريق، فلا يحسن منه الامتثال
ج5
الاحتمالي لصلاة الظهر(1)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه رحمهالله .
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
وفيه: أنّه لا يتقدّم الامتثال التفصيلي على الإجمالي عندنا، فيجوز الاحتياطمع التمكّن من الامتثال التفصيلي ولو كان علميّاً، فضلاً عن كونه ظنّيّاً، فقدمرّ(2) آنفاً أنّه يجوز الاحتياط بإتيان الصلاة في الثياب المتعدّدة التي علمبنجاسة أحدها مع التمكّن من غسل أحدها والصلاة فيه، وهذا تقديم للامتثالالإجمالي على الامتثال التفصيلي العلمي.
وأمّا قوله رحمهالله بأنّ معنى حجّيّة الأمارة هو إلغاء احتمال خلاف مؤدّاها فيمقام العمل، فهو أيضاً باطل، لأنّ دليل حجّيّتها لا يوجب إلاّ العمل بمؤدّاها،سيّما بناء العقلاء الذي كان أهمّ أدلّة حجّيّتها، لأنّ الأدلّة اللفظيّة لو احتملدلالتها على لزوم إلغاء احتمال الخلاف، لا يمكن هذا الاحتمال في بناء العقلاء،لأنّ بنائهم لا يكون إلاّ عملهم بقول الثقة، فمن أين يستفاد لزوم إلغاء احتمالالخلاف؟!
سلّمنا، ولكنّه لا فرق في عدم الإلغاء بين تقديم ما قامت الحجّة على خلافهوبين تأخيره، إذ في كليهما لم يُلغَ احتمال الخلاف في مقام العمل، فلابدّ من تركهرأساً، ولا يتمّ قوله رحمهالله بسقوط دليل حجّيّة الأمارة بمجرّد الإتيان بما يقتضيه،فلا مانع من الاحتياط بعده، وذلك لأنّ دليل الحجّيّة لو اقتضى أمرين:أحدهما: لزوم العمل على مؤدّى الأمارة، والثاني: لزوم إلغاء احتمال الخلافعملاً، فبإتيان صلاة الجمعة في المثال سقط دليل الحجّيّة بالنسبة إلىالأمر
- (1) فوائد الاُصول 4: 265.