(صفحه200)
مشكوك، فانحلّ العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي والشكّ البدوي، ولكن لمجال لهذا التوهّم هاهنا، لأنّ قيد المأمور به لا يكون جزءً له، بل التقيّد جزءتحليلي له، والأجزاء التحليليّة لا تكاد تتّصف باللزوم الغيري المقدّمي،فالصلاة المتحقّقة في ضمن الصلاة الواجدة للطهارة مباينة للصلاة المتحقّقة فيضمن الصلاة الفاقدة لها، فيرجع الأمر إلى المتباينين، فيجب الاحتياط عقلاً(1).
هذا ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله في المقام.
أقول: الأصل في كلامه ما ذهب إليه الفلاسفة، من أنّ نسبة الكلّي الطبيعيإلى أفراده كنسبة الآباء المتعدّدة إلى أبنائهم(2).
فإنّه رحمهالله تخيّل ـ على ما هو ظاهر كلامه وصريح كلام المحقّق العراقي رحمهالله ـ أنّالفلاسفة أرادوا أنّ الطبيعي يتحصّص إلى حصص متعدّدة بعدد الأفراد، بحيثكان المتحقّق في ضمن كلّ فرد حصّة من الطبيعي المطلق غير الحصّة المتحقّقةفي ضمن فرد آخر، كالصلاتيّة المتحقّقة في ضمن الصلاة مع الطهارة بالقياسإلى الصلاتيّة المتحقّقة في ضمن الصلاة بلا طهارة، وكالحيوانيّة الموجودة فيضمن الإنسان بالقياس إلى الحيوانيّة الموجودة في ضمن نوع آخر ـ كالبقروالغنم ـ وكالإنسانيّة المتحقّقة في ضمن زيد بالقياس إلى الإنسانيّة المتحقّقة فيضمن عمرو وبكر، فلا محالة في فرض الدوران بين وجوب إكرام مطلقالإنسان أو خصوص زيد(3) لا يكاد يكون الطبيعي المطلق القابل للانطباقعلى حصّة اُخرى محفوظاً في ضمن زيد، كي يمكن دعوى العلم بوجوبه على
- (2) خلافاً للرجل الهمداني الذي ذهب إلى أنّ الكلّي الطبيعي موجود واحد مرئيّ وقد رآه في جبال همدان،ويكون نسبته إلى أفراده كنسبة الأب الواحد إلى الأبناء المتعدّدة. منه مدّ ظلّه.
- (3) وكذلك فرض الدوران بين وجوب مطلق الصلاة أو خصوص الصلاة مع الطهارة، وفرض الدوران بينوجوب إطعام مطلق الحيوان أو خصوص الإنسان. م ح ـ ى.
ج5
أيّ حال، لأنّ ما هو محفوظ في ضمنه إنّما هي الحصّة الخاصّة من الطبيعي،ومع تغاير هذه الحصّة مع الحصّة الاُخرى المحفوظة في ضمن فرد آخر كيفيمكن دعوى اندراج فرض البحث في الأقلّ والأكثر؟!
بل الأمر في أمثال هذه الموارد ينتهي إلى العلم الإجمالي بتعلّق التكليف إمّبخصوص حصّة خاصّة أو بجامع الحصص والطبيعي على الإطلاق بما هو قابلالانطباق على حصّة اُخرى غيرها، ومرجعه إلى العلم الإجمالي إمّا بوجوبهذه الحصّة الخاصّة وإمّا بوجوب حصّة اُخرى غيرها مشمولة لإطلاقالطبيعي، وفي مثله بعد عدم قدر متيقّن في البين يرجع الأمر إلى المتبائنين،فيجب فيه الاحتياط، بإكرام خصوص زيد، لأنّه يوجب القطع بالخروج عنعهدة التكليف المعلوم في البين، بخلاف صورة إكرام غير زيد، فإنّه لا يقطعحينئذٍ بحصول الفراغ ولا يأمن العقوبة على ترك إكرام زيد.
هذا ما بنى عليه المحقّق الخراساني رحمهالله وجوب الاحتياط في المسألة.
نقد كلام صاحب الكفاية رحمهالله
ويرد عليه أوّلاً: أنّ تفسير كلام الفلاسفة بما ذكره في غير محلّه، فإنّهم أرادوأنّ الكلّي الطبيعي موجود في الخارج بنفس ذاته، ولكن بنعت الكثرة، لالتباين، فإنّ الطبيعي هو نفس الماهيّة، وهي موجودة بتبع الوجود في الخارج،وحيث إنّها لم تكن بذاتها واحدة ولا كثيرة ولا كلّيّة ولا جزئيّة، تكون معالواحد واحدة ومع المتكثّر متكثّرة، ولو لم يكن لها فرد لم توجد أصلاً(1)،فيكون الطبيعي موجوداً مع كلّ فرد بتمام ذاته، ويكون متكثّراً بتكثّر الأفراد.
- (1) لعدم كون الكلّي متحقّقاً في الخارج دائماً، بل لا يكون ممكناً أحياناً، فإنّ المنطقيّين قالوا: المفهوم إنامتنع فرض صدقه على كثيرين فجزئي، وإلاّ فكلّي، امتنعت أفراده أو أمكنت ولم توجد، أو وجد الواحدفقط، مع إمكان الغير، أو امتناعه، أو الكثير، مع التناهي أو عدمه. م ح ـ ى.
(صفحه202)
فزيد إنسان، وعمرو إنسان آخر، وبكر إنسان ثالث، لا أنّهم متباينون منحيث الإنسانيّة، فالحقيقة الإنسانيّة تتكثّر بتكثّر الأفراد، لا أنّها متباينة ـ كمزعم المحقّق الخراساني والعراقي رحمهماالله ـ ولا أنّها واحدة بالوحدة العدديّة ـ كمزعم الرجل الهمداني ـ فالطبيعي في الخارج موجود بنفس ذاته مع كلّ فرد،فمفهوم «الإنسان» مثلاً هو الحيوان الناطق، وهذا المفهوم يتكثّر بعدد أفرادالإنسان، بحيث يكون كلّ فرد تمام الإنسان، لا حصّة منه، ولذا نقول: «زيدوعمرو إنسانان» ولا نقول: «زيد وعمرو حصّتان من الإنسان» فزيد وجودمستقلّ لطبيعة الإنسان، وعمرو أيضاً وجود مستقلّ آخر لها، ولا مغايرةبينهما في إنسانيّتهما، وإنّما المغايرة في تشخّصاتهما الفرديّة.
وهكذا الأمر في الجنس وأنواعه، فإنّ الحيوانيّة التي في الإنسان لا تكونمغايرة للحيوانيّة التي في الفرس، وإنّما المغايرة في فصلهما، وهو الناطقوالصاهل.
وثانياً: أنّه لا يتصوّر جامع بين الأفراد بناءً على ما اختاره المحقّقالخراساني والعراقي رحمهماالله من تحصّص الطبيعي إلى حصص متغايرة متعدّدة بعددالأفراد، فإنّهما إن أرادا بالجامع أمراً لفظيّاً، بمعنى أنّ لفظ الإنسان مثلاً يكونجامعاً بين أفراده، بحيث يطلق على زيد وعمرو وبكر و... بعنوان المشتركاللفظي، فيرد عليه أنّ البحث عن الألفاظ ليس من شأن المنطقي والفلسفي.
وإن أرادا به جامعاً معنويّاً بين الحصص فلا يتصوّر له شيء هاهنا إلاّ نفسالحصص، وهي لا تصلح للجامعيّة، لكونها متغايرةً فرضاً.
على أنّه لو صحّ تصوّر جامع بين الحصص لكان ذلك الجامع أيضاً كلّيّطبيعيّاً، فلابدّ من أن يتحصّص ـ على مذهب المحقّق الخراساني والعراقي ـ أيضإلى حصص بعدد أفراده، وحينئذٍ نحتاج إلى جامع آخر، فيتسلسل.
ج5
وأمّا بناءً على ما استظهرناه من كلام الفلاسفة فلا يصعب تصوّر الجامع،لأنّ الكلّي الطبيعي بناءً عليه عبارة عن نفس الماهيّة، وليس في ذاته وحدة ولكثرة، لكنّه قابل لأن يتكثّر بتكثّر أفراده، فهذا الكلّي الطبيعي ـ بلحاظ هذالتكثّر ـ يكون جامعاً بين أفراده، ولا محذور فيه، لما عرفت من عدم تغايرالأفراد بلحاظ هذا الجامع، وإنّما التغاير فيها بحسب التشخّصات الفرديّة.
وعلى هذا لا منع من جريان البراءة العقليّة إذا شككنا في أنّ المأمور به هلهو الطبيعي أو فرده، كما إذا كان مردّداً بين إكرام إنسان وبين إكرام زيد، لأنّنعلم تفصيلاً بوجوب إكرام حيوان ناطق ونشكّ بدواً في أنّ العوارضالمشخّصة لزيد هل تكون ملحوظة في المأمور به أم لا، والعقل يحكم بأنّها لوكانت ملحوظة لكان على المولى بيانها، فحيث لم يبيّنها لا يجوز له العقاب علىعدم رعايتها، لأنّه عقاب بلا بيان، وهو قبيح، وهكذا إذا شككنا في أنّالمأمور به هل هو الجنس أو النوع، كما إذا كان مردّداً بين إطعام حيوان وبينإطعام إنسان، وهكذا إذا شككنا في أنّ المأمور به هل هو المطلق أو المشروط،كما إذا كان مردّداً بين مطلق الصلاة وبين الصلاة المقيّدة بالطهارة، بل جريانالبراءة هاهنا أوضح، لما سيجيء من أنّ العرف يرى المغايرة بين الطبيعيوفرده، وكذلك بين الجنس ونوعه، فلتوهّم رجوعهما إلى المتباينين مجال،ولكنّ المطلق والمشروط ليسا متغايرين حتّى بنظر العرف، فإنّه يرى أنّالصلاة المقيّدة بالطهارة هي الصلاة بضميمة شيء آخر، لا أنّهما متباينتان، فلمجال لتوهّم رجوع دوران الأمر بين المطلق والمشروط إلى المتباينين.
والحاصل: أنّ البراءة العقليّة تجري في موارد الدوران بين المطلقوالمشروط، وبين الجنس والنوع، وبين الطبيعي والفرد.
نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله في المسألة
(صفحه204)
لكنّ المحقّق النائيني رحمهالله قال بعدم جريان البراءة في موارد الدوران بينالجنس ونوعه، لأنّ الترديد بينهما وإن كان يرجع بالتحليل العقلي إلى الأقلّوالأكثر، إلاّ أنّه بنظر العرف يكون من الترديد بين المتباينين، لأنّ الإنسان بمله من المعنى المرتكز في الذهن مباين للحيوان عرفاً، فلو علم إجمالاً بوجوبإطعام الإنسان أو الحيوان، فاللازم هو الاحتياط بإطعام خصوص الإنسان،لأنّ أصالة البراءة في كلّ منهما تجري وتسقط بالمعارضة مع الآخر، فيبقى العلمالإجمالي على حاله، ولابدّ من العلم بالخروج من عهدة التكليف، ولا يحصلذلك إلاّ بإطعام خصوص الإنسان، لأنّه جمع بين الأمرين، فإنّ إطعام الإنسانيستلزم إطعام الحيوان أيضاً(1)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه رحمهالله .
نقد كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
ويرد عليه أوّلاً: أنّ نظر العرف إنّما يكون متّبعاً في الأدلّة اللفظيّة، ونحنلا نبحث فعلاً عن البراءة الشرعيّة التي تستفاد من مثل حديث الرفع، بلالبحث في البراءة العقليّة، فرأي العرف لا يكون متّبعاً، بل المتّبع هو نظر العقل،والعقل لا يرى بين الجنس ونوعه تبايناً وتغايراً.
وثانياً: أنّ الإنسان والحيوان وإن كانا بنظر العرف من قبيل المتباينين، لكنليس جميع موارد الترديد بين النوع والجنس كذلك، كما إذا دار الأمر بينالحيوان والفرس، فإنّهما ليسا بنظرهم من قبيل المتباينين.
وبالجملة: إشكاله يرجع إلى المناقشة في المثال.
وثالثاً: أنّ الدوران بين الإنسان والحيوان لو كانا من قبيل المتباينين، فلابدّمن الجمع بين إطعامهما في مقام الامتثال، ولا معنى لما ذكره من أنّ طريق
- (1) فوائد الاُصول 4: 208.