(صفحه238)
أيضاً يكون الغافل مكلّفاً بالناقص ما دام غافلاً، وبعد رفع الغفلة يشكّ في أنّتكليف الذاكر هل يتوجّه إليه من الآن أم لا؟ وهذا أيضاً مجرى البراءة.
وبالجملة: إنّ المباني الثلاثة مشتركة في أنّ التكليف بالتامّ لم يكن متوجّهإلى الغافل قبل زوال غفلته، فأين الاشتغال اليقيني بالنسبة إليه كي يقتضيالفراغ اليقيني؟!
ج ـ ما ذكره رحمهالله من جريان الاستصحاب إذا كان في أوّل الوقت ذاكراً ثمّعرض عليه النسيان حين العمل ثمّ زال نسيانه قبل خروج الوقت.
فإنّ التكليف بالتامّ وإن كان متوجّهاً إليه في أوّل الوقت، إلاّ أنّه ارتفع فيظرف النسيان قطعاً، لعدم القدرة عليه حينئذٍ، فإذا زال نسيانه شكّ في عودهثانياً، فلا مجال للاستصحاب، لأنّ اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين شرط فيجريان الاستصحاب، وهو مفقود فيما نحن فيه، بل يجري استصحاب عدمالتكليف بالتامّ، فإنّه يعلم بعدم كونه مكلّفاً بالتامّ حال النسيان، ويشكّ فيهبعد زوال العذر، فيستصحب العدم.
فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ العقل يحكم بالبراءة وقبح العقاب بلا بيان، سواء كانالغفلة مستوعبة لجميع الوقت أو زالت في أثنائه.
مقتضى إطلاق الأدلّة في موارد نسيان الجزء
هذا إذا لم يكن لنا دليل اجتهادي دالّ على الجزئيّة مطلقاً أو علىاختصاصها بحال الذكر، وبعبارة اُخرى: إذا لم تقم حجّة على ركنيّة الجزءالمنسيّ أو على عدم ركنيّته.
وأمّا إذا كان لنا دليل اجتهادي مثل الإطلاق فلا مجال لجريان الاُصول،وحينئذٍ للمسألة صورتان:
ج5
الاُولى: أن يكون الإطلاق في دليل جزئيّة الجزء، كدليل جزئيّة السورةللصلاة.
الثانية: أن يكون في دليل المركّب، كقوله تعالى: «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ»(1) علىفرض كونه في مقام البيان من الجهة المبحوث عنها، لا في مقام بيان مجرّدتشريع الصلاة بنحو الإجمال.
والقاعدة تقتضي بطلان صلاة الناسي للجزء في الصورة الاُولى وصحّته فيالصورة الثانية.
وذلك لأنّ إطلاق دليل الجزئيّة يدلّ عليها في حالتي الذكر والنسيان،فالمكلّف الناسي للجزء لم يأت بالمأمور به واقعاً، فلابدّ له بعد زوال غفلته منالإعادة في الوقت والقضاء خارجه.
بخلاف ما إذا كان الإطلاق في دليل المركّب، إذ لابدّ في تقييده من الاكتفاءبالقدر المتيقّن، وهو الإخلال بالسورة عمداً، وأمّا الإخلال بها نسياناً فيتمسّكفيه بإطلاق الأمر بالمركّب ويحكم بصحّة الصلاة، فلا يجب عليه الإعادة أوالقضاء.
وبالجملة: إذا كان هاهنا إطلاق فلا مجال لجريان الأصل العملي، سواء كانموافقاً للإطلاق أو مخالفاً له.
هذه قاعدة كلّيّة في باب الصلاة وغيرها من المركّبات المأمور بها، وأمّصغريات هذه القاعدة ـ وهي إطلاق دليل الجزئيّة أو دليل المركّب ـ فلابدّ فيكلّ باب من النظر إلى دليل تلك الصغريات حتّى يتّضح حالها.
نظريّة المحقّق العراقي رحمهالله حول أدلّة باب الصلاة
(صفحه240)
وحيث إنّ المحقّق العراقي رحمهالله تعرّض للبحث الصغروي في خصوص بابالصلاة فلا بأس بالتكلّم حول ما ذكره:
قال رحمهالله بعد بيان القاعدة الكلّيّة:
ولكن دعوى ثبوت الإطلاق لدليل المركّب ساقطة عن الاعتبار، لوضوحأنّ مثل هذه الخطابات(1) إنّما كانت مسوقة لبيان مجرّد تشريع المركّب بنحوالإجمال، لا لبيان ما يعتبر فيه حتّى يكون مرجعاً عند الشكّ في جزئيّة شيءأو شرطيّته للمركّب.
وأمّا دليل المثبت للجزئيّة فلا يبعد دعوى اقتضائه للركنيّة، لقوّة ظهوره فيالإطلاق والشمول لحال النسيان، من غير فرق بين أن يكون بلسان الوضع،كقوله: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» و«لا صلاة إلاّ بطهور» وبين أن يكونبلسان الأمر والتكليف، كقوله: «اركع في الصلاة واسجد فيها» ونحو ذلك منالأوامر المتعلّقة بأجزاء المركّب.
نعم، في مورد يكون دليل اعتبار الجزء هو الإجماع يمكن تخصيص الجزئيّةالمستفادة منه بحال الذكر، لكونه هو المتيقّن من الإجماع على ثبوت الجزئيّة،بخلاف ما لو كان دليل الجزء غير الإجماع، فإنّ إطلاقه مثبت لعموم جزئيّةالجزء لحال النسيان أيضاً.
لا يقال: إنّ ذلك يستقيم إذا كان دليل اعتبار الجزء بلسان الوضع، كقوله:«لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» وأمّا إذا كان بلسان الأمر والتكليف، كقوله:«اركع في الصلاة» فلا يتمّ ذلك، لأنّ الجزئيّة حينئذٍ تتبع الحكم التكليفي، فإذكان الحكم التكليفي مختصّاً بحكم العقل بحال التذكّر ولا يمكن شموله لحالالغفلة والنسيان فالجزئيّة المستفادة منه تتبعه وتختصّ بحال الذكر أيضاً.
- (1) أي مثل خطاب «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» المذكور في السطور المتقدّمة من كلامه رحمهالله . م ح ـ ى.
ج5
فإنّه يقال: إنّه لو تمّ ذلك فإنّما هو في فرض ظهور تلك الأوامر المتكفّلةلبيان الأجزاء والشرائط في المولويّة النفسيّة أو الغيريّة، وإلاّ فعلى ما هوالتحقيق من ظهورها في الإرشاد إلى جزئيّة متعلّقاتها للمركّب ودخلها فيالملاكات والمصالح الكائنة فيه، فلا يستقيم ذلك، إذ لا يكون حينئذٍ محذورعقلي أو غيره في عموم الجزئيّة لحال النسيان.
مع أنّه على فرض ظهورها في المولويّة ولو(1) بدعوى كونها بحسب اللبّعبارةً عن قطعات ذلك الأمر النفسي المتعلّق بالمركّب غير أنّها صارتمستقلّة في مقام البيان، نقول: إنّ المنع المزبور عن عموم الجزئيّة لحال النسيانإنّما يتّجه إذا كان الحكم العقلي بقبح تكليف الناسي والغافل في الارتكاز بمثابةيكون كالقرينة المحتفّة بالكلام، بحيث يمنع عن انعقاد ظهوره في الإطلاق، وهوفي محلّ المنع، فإنّ الظاهر هو عدم كونه من العقليّات الضروريّة المرتكزة فيأذهان العرف والعقلاء، وأنّه من العقليّات غير الارتكازيّة التي لا ينتقل الذهنإليها إلاّ بعد الالتفات والتأمّل في المبادئ التي أوجبت حكم العقل، فيدخلحينئذٍ في القرائن المنفصلة المانعة عن مجرّد حجّيّة ظهور الكلام، لا عن أصلظهوره، وعليه يمكن أن يقال: إنّ غاية ما يقتضيه الحكم العقلي المزبور إنّما هوالمنع عن حجّيّة ظهور تلك الأوامر في الإطلاق بالنسبة إلى الحكم التكليفي،وأمّا بالنسبة إلى ظهورها في الحكم الوضعي ـ وهو الجزئيّة وإطلاقها لحالالنسيان ـ فحيث لا قرينة على الخلاف من هذه الجهة يؤخذ بظهورها في ذلك.
وعلى فرض الإغماض عن ذلك أيضاً يمكن التمسّك بإطلاق المادّة لدخل
- (1) توضيحه: أنّ ظهورها في المولويّة إمّا بدعوى كون الأمر بالجزء مولويّاً غيريّاً، لأنّ كلّ جزء مقدّمة لتحقّقالكلّ، فهو واجب بوجوب غيري مقدّمي، أو بدعوى كونه مولويّاً نفسيّاً، لكونه بحسب اللبّ عبارة عنقطعة من ذلك الأمر النفسي المتعلّق بالمركّب، غير أنّها صارت مستقلّة في مقام البيان. منه مدّ ظلّهتوضيحاً لعبارة المحقّق العراقي رحمهالله .
(صفحه242)
الجزء في الملاك والمصلحة(1) حتّى في حال النسيان، فلا فرق حينئذٍ في صحّةالتمسّك بإطلاق دليل الجزء لعموم الجزئيّة لحال النسيان بين كونه بلسانالحكم التكليفي أو بلسان الوضع(2)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه.
نقد ما أفاده المحقّق العراقي رحمهالله في المسألة
وما ذكره من الأجوبة الثلاثة(3) عن الإشكال كلّها منظور فيه:
أمّا الأوّل: فلأنّ الأوامر المولويّة والإرشاديّة تشتركان في أنّ الموضوع لهفيهما هو البعث والتحريك، فإنّ صيغة «افعل» وضعت لهذا المعنى، وأيضتشتركان في أنّهما يستعملان في نفس هذا المعنى الحقيقي، لا أنّ الأمر المولوييكون مستعملاً في المعنى الحقيقي ـ وهو البعث والتحريك ـ والإرشادي في غيرهذا المعنى مجازاً، ولذا لا يمكن توجيه الأمر الإرشادي إلى المجنون، كما لا يمكنتوجيه الأمر المولوي إليه.
ولكنّ الفرق بينهما أنّ الغرض من صدور الأمر المولوي هو المصالح التيتكون في المأمور به ـ على ما هو المشهور بين العدليّة ـ ولكنّ الغرض منصدور الأمر الإرشادي هو مجرّد الهداية، فإنّ الطبيب إذا قال: «كل هذالدواء» فهو بعث إلى أكله، ولكن غرضه من هذا البعث هدايته إلى أنّه لوأحبّ زوال المرض فلابدّ له من أكل هذا الدواء.
وبالجملة: لا فرق بين الأمر المولوي والإرشادي في الموضوع له ول
- (1) أي: إنّ هيئة الأمر وإن كانت مختصّة بالمتذكّر، فلا يعمّ وجوب الركوع ـ المستفاد من هيئة «اركع فيالصلاة» ـ الناسي، لكنّا نستكشف من توجّه الأمر إلى الذاكر أنّ المادّة ـ وهي الركوع ـ دخيلة في المصلحةالتي صدر الأمر لأجلها مطلقاً، حتّى في حال النسيان. منه مدّ ظلّه توضيحاً لعبارة المحقّق العراقي رحمهالله .
- (2) نهاية الأفكار 3: 423.
- (3) والأجوبة الثلاثة هي: 1ـ قوله: إنّه لو تمّ ذلك إلخ، 2ـ قوله: مع أنّه على فرض ظهورها في المولويّة إلخ،3ـ قوله: وعلى فرض الإغماض إلخ. م ح ـ ى.