ج5
والجواب عنه مبنيّ على ملاحظة منشأ القول بتبعيّة الأوامر والنواهيالشرعيّة للمصالح والمفاسد النفس الأمريّة في متعلّقاتها، فنقول:
إذا راجعنا الكتب الكلاميّة نرى بحثاً بين الأشاعرة والعدليّة، وهو أنّه هليمكن الإرادة الجزافيّة في أفعال اللّه تعالى أم لا؟
قالت الأشاعرة: نعم، ولعلّ الوجه في نظرهم أنّه تعالى قادر على كلّ شيء،فعّال لما يشاء، فلا يلزم أن يكون لإراداته تعالى منشأ عقلائي.
وقالت العدليّة: لا، بل لابدّ لإرادته تعالى المتعلّقة بأفعاله غرض عقلائي،ولا يجوز الإرادة الجزافيّة، كما أنّ إراداتنا المتعلّقة بأفعالنا لا تتحقّق إلاّ بعدتصوّر الفعل والتصديق بفائدته، فلابدّ من أن يكون في متعلّق الأمر مصلحة،لأنّ الأمر فعل من أفعاله تعالى، فإرادته تحتاج إلى غرض، وهو المصلحة التيتكون في متعلّقه، وإلاّ يلزم الإرادة الجزافيّة بالنسبة إلى أفعاله تعالى، وهيمستحيلة.
هذا ما ذهب إليه العدليّة.
أقول: لا إشكال في أنّ الإرادة الجزافيّة ممتنعة، لكن لابدّ لنا من أن نبحثفي أنّ التخلّص عن الإرادة الجزافيّة بالنسبة إلى أفعاله تعالى منحصر في القولبتبعيّة الأوامر والنواهي لمصالح ومفاسد في متعلّقاتهما كي يلزم علينا الالتزامإمّا بكونهما مأموراً به ومنهيّاً عنه واقعاً أو بكونهما غرضاً للأمر والنهي، أويمكن التخلّص عن الجزاف بوجه آخر؟
الحقّ أنّ التخلّص عنه لا ينحصر في الطريقين المذكورين في الإشكال، بليمكن دفع الجزاف بطريقين آخرين أيضاً:
أ ـ أنّه يمكن أن يكون نفس الصلاة مثلاً مصلحة ومحبوبة للشارع، حيثإنّها تتضمّن التكبير والقراءة والركوع والسجود وغيرها، لا أنّها شيء فيه
(صفحه180)
المصلحة حتّى تكون الصلاة والمصلحة شيئان: أحدهما يؤثّر في تحقّق الآخر،فلا مانع من أن يكون أمر الشارع لأجل نفس الصلاة التي هي بنفسهمصلحة ومحبوبة، فإذا شككنا في أنّ الصلاة هي الأقلّ أو الأكثر علمنا تفصيلبأنّ الأجزاء المعلومة ـ أي الأقلّ ـ محبوبة له تعالى وشككنا بالشكّ البدوي فيمحبوبيّة الجزء المشكوك، فتجري البراءة فيه.
ب ـ أنّه يمكن أن يكون في نفس «الأمر» و«النهي» مصلحة ـ كما عليهبعض العدليّة ـ ولأجلها صدر الأمر والنهي من قبل الشارع، وبمجرّدصدورهما تتحقّق المصلحة التي هي غرضه، لكنّ العقل يحكم بإتيان المأمور بهوترك المنهيّ عنه لأجل المولويّة والعبوديّة، فإذا دار الأمر في المأمور به بينالأقلّ والأكثر يحكم العقل بلزوم إتيان ما وصل إلينا بيانه وهو الأقلّ،وبالنسبة إلى غيره يحكم بقبح العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان.
فاتّضح ممّا ذكرنا أنّ امتناع الإرادة الجزافيّة عليه تعالى لا يلازم عقلوجوب الاحتياط بإتيان الأكثر في الدوران بين الأقلّ والأكثر، فلا يمنع منإجراء البراءة العقليّة.
على أنّا لو فرضنا أنّ دفع الجزاف منحصر فيما ذهب إليه المشهور منالعدليّة ـ من تبعيّة الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد التي في متعلّقاتهما ـ لمتمّ الإشكال على طريقه الثاني، وهو أن تكون المصلحة غاية وغرضاً للأمر مندون أن تكون نفسها مأموراً بها، فإنّا وإن كنّا شاكّين في سقوط الغرض بإتيانالأقلّ، لكن نمنع من أن يكون بقاء الغرض واقعاً مساوقاً لبقاء الأمر، حتّىيكون الشكّ في سقوطه مستلزماً للشكّ في سقوط الأمر ـ كما عليه المحقّقالخراساني رحمهالله (1) ـ فإنّ المولى إذا أمر عبده بتحصيل معجون مركّب لغرض
ج5
وأعطاه مكتوباً فيه الأجزاء التي يتركّب منها المعجون وأمره بتحصيل هذهالأجزاء وجعلها معجوناً مركّباً، ثمّ العبد شكّ في أنّ الشيء الفلاني الذي لميكن في المكتوب يكون جزءً للمعجون أيضاً ومؤثّراً في الغرض الذي لأجلهأمر المولى بتحصيل المعجون أو لا، فهلترى العقل يحكم بتحصيل المشكوكوجعله جزءً للمعجون أيضاً؟! أين حكم العقل بهذا؟!
بل العقل يحكم بلزوم تركيب ما في المكتوب وهو الأجزاء المعلومة ويحكمأيضاً بأنّه لو لم يتحصّل غرض المولى بها لم يجز له عقاب العبد، لأنّه بلا بيان،وهو قبيح.
وما نحن فيه هكذا، فإنّ العقل يأمر بإتيان المعلوم وهو الأقلّ، ولو كانغرضه تعالى لم يحصل إلاّ بالأكثر لما جاز له العقوبة عقلاً، لأنّها بلا حجّةوبيان.
نعم، لو قلنا بأنّ دفع الجزاف منحصر فيما ذهب إليه المشهور من العدليّة لتمّالإشكال على الطريق الأوّل، وهو أن تكون المصالح والمفاسد الواقعيّة هيالمأمور بها والمنهيّ عنها واقعاً ويكون الأمر والنهي المتعلّقان بالصلاة والخمرمثلاً إرشاديّين، لأنّا إذا أتينا بالأقلّ شككنا في أنّ المحصّل للمأمور به هلتحقّق أم لا؟
لكنّا ذكرنا لدفع الجزاف طريقين آخرين، فلا ينحصر الدفع فيما ذهب إليهالمشهور من العدليّة.
على أنّه من قبيل الشكّ في المحصّل الذي للبحث عنه مقام آخر كما سيأتيإن شاء اللّه تعالى.
هل اعتبار «قصد القربة» يمنع من إجراء البراءة في المقام؟
(صفحه182)
الإشكال الثامن(1): أنّ أمر الأقلّ دائر بين أن يكون واجباً نفسيّاً وبين أنيكون واجباً غيريّاً، وعلى الأوّل يكون صالحاً للتقرّب، لا على الثاني، لأنّالمقرّب هو الواجب النفسي، وأمّا الواجب الغيري فهو توصّلي غير صالحللمقرّبيّة، وأمّا الأكثر فهو صالح للمقرّبيّة قطعاً، لأنّ الأمر المتعلّق به نفسي،سواء كان الواجب هو الأقلّ أو الأكثر، فمَن أتى بالأقلّ لا يمكن له قصدالتقرّب المعتبر في العبادة، لأنّه لا يعلم أنّه واجب نفسي، لاحتمال تعلّق الأمرالنفسي بالأكثر وكون الأمر بالأقلّ غيريّاً توصّليّاً، وأمّا من أتى بالأكثر تمشّىمنه قصد القربة، لعلمه بتعلّق الأمر النفسي به على كلّ تقدير، فيجب الاحتياطبإتيان الأكثر لرعاية قصد القربة.
والجواب عنه أوّلاً: أنّه لا دليل على اعتبار «قصد القربة» بنفس هذالعنوان الذي صار معروفاً بين الفقهاء في العبادات، بل الحقّ ما ذهب إليهسيّدنا الاُستاذ الحاج آقا حسين البروجردي رحمهالله وأثبتناه في تقريرات صلاته،وهو أنّه يعتبر في العبادات أن لا يكون الداعي على إتيانها ما يمنع عن قربيّةالعمل، كالرياء والعجب، بل لابدّ من أن يؤتى بها بداعي الأمر بها فقط، فقدورد في ذمّ الرياء والعجب وأمثالهما وفي بطلان العمل بداعي هذه الاُمورروايات كثيرة، لكن لم يدلّ دليل على وجوب «قصد القربة» بهذا العنوانالمخصوص، فالمعتبر في العبادات أن يكون العبد منبعثاً ببعث الشارع ومتحرّكبتحريكه وفاعلاً بداعي أمره، وهو كما يتمشّى من الآتي بالأكثر يتمشّى أيضمن الآتي بالأقلّ، إذ لا فرق بينهما إلاّ في أنّ الأوّل لا يقول بانحلال العلمالإجمالي، فيقول بوجوب الاحتياط بإتيان الأكثر، لأنّ الاشتغال اليقينييستدعي البراءة اليقينيّة، بخلاف الثاني، فإنّه يقول بالانحلال، أو بعدم تحقّق
- (1) هذا الإشكال يختصّ بالواجبات التعبّديّة، ولا يجري في التوصّليّات. منه مدّ ظلّه.
ج5
علم إجمالي أصلاً ـ كما قلنا به ـ فيقول بعدم وجوب الاحتياط، بل يجريالبراءة بالنسبة إلى الزائد المشكوك.
وهذا الفرق غير مؤثّر في إتيان العمل بداعي الأمر وعدمه، فإنّه لا ريب فيأنّ كليهما يأتيان بالعمل بداعي أمره.
أمّا من أتى بالأقلّ لأجل الرياء والعجب وأمثالهما فعمله وإن كان باطلاً إلأنّه ليس محلاًّ للنزاع، فإنّ الآتي بالأكثر أيضاً لو قصد الرياء وأمثاله لكانعمله باطلاً غير مقرّب.
وثانياً: نحن لا نقول بالوجوب الغيري للأقلّ على تقدير كون المأمور به هوالأكثر، بل المكلّف يأتي بأجزاء الواجب بداعي الأمر الذي تعلّق بالمركّب،فإذا سألنا المصلّي عن علّة ركوعه مثلاً، يقول: لأجل قوله تعالى: «أَقِيمُواْالصَّلَوةَ»(1) ولا يقول: لأجل الأمر الغيري المترشّح من قوله تعالى: «أَقِيمُواْالصَّلَوةَ» وذلك لأنّ المركّب والأجزاء شيء واحد، والفرق بينهما إنّما هوبالإجمال والتفصيل، فمبنى هذا الإشكال ـ وهو أنّ الأمر لو كان متعلّقاً بالأكثرواقعاً فوجوب الأقلّ يكون غيريّاً غير صالح للمقرّبيّة ـ باطل، فالإشكالأيضاً يكون باطلاً.
فقد ثبت جريان البراءة العقليّة في موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر إذكان المشكوك جزءاً.
المقام الثاني: في البراءة الشرعيّة
ولابدّ هاهنا من البحث تارةً: بناءً على القول بجريان البراءة العقليّة فيالبحث السابق، واُخرى: بناءً على القول بعدمه، فنقول:
- (1) وردت في آيات كثيرة، منها: سورة البقرة: 43.