ج5
وأمّا العنوان المنحلّ إلى التكاليف المستقلّة كالبيض من الغنم، فلا إشكال فيكونه كالمردّد من أوّل الأمر بين الأقلّ والأكثر.
وثانياً: لو سلّم ذلك فلا إشكال في عدم كون ما نحن فيه من هذا القبيل،لأنّ معنى تعلّق العلم بعنوان وتنجّزه به أن يكون العنوان بذاته متعلّق الحكم،وأمّا تعلّق العلم بعنوان غير ذي حكم فلا أثر له.
فحينئذٍ نقول: إنّ العلم بوجود أحكام في الكتب التي بأيدينا لا يوجبتنجّزها بهذا العنوان، فإنّ عنوان كون الأحكام في الكتب ليس من العناوينالتي تعلّق بها الحكم حتّى يتنجّز بما له من العنوان، ضرورة أنّه منالانتزاعيّات بعد جمع الأحكام في الكتب، وهذا ممّا لا يتعلّق به حكم، ولتكون الأحكام بذلك العنوان مورداً للتكليف، فالعلم الإجمالي المؤثّر متعلّقبنفس الأحكام بوجودها الواقعي، ويتردّد من أوّل الأمر بين الأقلّ والأكثر،فينحلّ العلم الإجمالي إلى التفصيلي والشكّ البدوي.
وممّا ذكرنا يتّضح أنّ ما ذكره من المثالين المتقدِّمين مورد للمناقشة، فإنّعنوان «البيض» ليس ممّا تعلّق به الحكم، حتّى يكون العلم المتعلّق به منجّزاً لهبعنوانه، فإنّه عنوان عرضي مقارن من باب الاتّفاق مع ما تعلّق به التكليف،وهو عنوان الموطوء، فالمتعلّق هو الموطوء لا الأبيض، فالعلم المتعلّق بهموضوع الأثر أي التنجّز، فحينئذٍ لو صحّ ما ذكره ـ من أنّه لو كان العلم متعلّقبعنوان كان منجّزاً لأفراده الواقعيّة، ولا ينحلّ العلم الإجمالي إلى التفصيليوالشكّ ـ كان المثال الأوّل كذلك، لتعلّق العلم بالموطوء، وتردّده بين الأقلّوالأكثر، كما أنّ المثال الثاني أيضاً كذلك، لما ذكرنا، لا لتعلّق العلم بعنوانالبيض من الغنم، كما هو واضح.
(صفحه350)
وأمّا ما ذكره ـ من أنّه ليس للمكلّف الأخذ بالأقلّ لو علم باشتغاله بما فيالطومار ـ فهو أجنبيّ عن المقام، بل هو من قبيل الشبهات الموضوعيّة ـ التيسيتعرّض هذا المحقّق لها، ويختار وجوب الفحص فيها ـ ممّا لا يحتاج حصولالعلم بالموضوع فيها إلى مقدّمات كثيرة، بل يحصل بمجرّد النظر، فالفحص فيهلازم، ولو مع عدم العلم الإجمالي(1)، فالعلم الإجمالي من قبيل الحجر المضموملجنب الإنسان(2)، إنتهى كلامه«مدّ ظلّه».
الثاني: أنّه أعمّ من المدّعى، لأنّ المدّعى هو الفحص عن الأحكام فيخصوص ما بأيدينا من الكتب، والمعلوم بالإجمال معنى أعمّ من ذلك، لأنّمتعلّق العلم هي الأحكام الثابتة في الشريعة واقعاً(3)، لا خصوص ما بأيدينا،والفحص فيما بأيدينا من الكتب لا يرفع أثر العلم الإجمالي، بل العلم باقٍ علىحاله، ولو بعد الفحص التامّ عمّا بأيدينا.
جواب المحقّق النائيني رحمهالله عن هذا الإشكال
وأورد عليه المحقّق النائيني رحمهالله بأنّه وإن علم إجمالاً بوجود أحكام فيالشريعة أعمّ ممّا بأيدينا من الكتب، إلاّ أنّه يعلم إجمالاً أيضاً بأنّ فيما بأيدينمن الكتب أدلّة مثبتة للأحكام مصادفة للواقع بمقدار يحتمل انطباق ما فيالشريعة عليها، فينحلّ العلم الإجمالي العامّ بالعلم الإجمالي الخاصّ ويرتفعالإشكال بحذافيره، ويتمّ الاستدلال بالعلم الإجمالي لوجوب الفحص، فتأمّلجيّداً(4)، إنتهى كلامه رحمهالله .
- (1) كما إذا احتمل المكلّف بنحو الشبهة البدويّة أنّ ذمّته مشغولة بدين لزيد، وعلم أنّها لو كانت مشغولةلكان مكتوباً في الدفتر الذي سهل الوصول إليه وإلى ما كتب فيه. م ح ـ ى.
- (2) أنوار الهداية 2: 418، وتهذيب الاُصول 3: 430.
- (3) حتّى ما كان في مثل الاُصول الأربعمائة التي لم تصل أكثرها إلينا، ولم يكتب بعض رواياتها في سائرالمجاميع الحديثيّة التي بأيدينا. م ح ـ ى.
ج5
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في الجواب عن هذا الإشكال
وفيه: أنّه بناءً على صحّة دعواه(1) لا يبقى مجال لدعوى انحلال العلمالإجمالي العامّ بالعلم الإجمالي الخاصّ الذي تعلّق بما في الكتب التي بأيدينا،لإمكان أن يقال: إنّ العلم الإجمالي العامّ تعلّق بعنوان واحد هو الأحكام التيفي الكتب مطلقاً أو الأحكام الصادرة عن الشريعة وأمثال ذلك، والمفروضأنّ تعلّقه به موجب لتنجّزه بما له من الأفراد الواقعيّة، وتردّده بين الأقلّوالأكثر لا يوجب الانحلال.
وبالجملة: إنّ هاهنا مناقشتين على التمسّك بالعلم الإجمالي لإثبات وجوبالفحص:
أ ـ أنّه أخصّ من المدّعى.
ب ـ أنّه أعمّ من المدّعى.
وقد بنى المحقّق النائيني رحمهالله جوابه عن المناقشة الاُولى على عدم انحلال العلمالإجمالي فيما إذا تعلّق بعنوان ليس بنفسه مردّداً بين الأقلّ والأكثر من أوّلالأمر، وبنى جوابه عن المناقشة الثانية على انحلاله في نفس هذا المورد.
وهذا تهافت ظاهر، فإنّ العنوان الذي تعلّق به العلم الإجمالي في المقام لوكان غير قابل للانحلال لم يصحّ جوابه عن المناقشة الثانية، وإن كان قابلاً له لميصحّ دعوى عدم الانحلال في الجواب عن المناقشة الاُولى.
نعم، يمكن الجواب عن الإشكال الثاني بناءً على ما اخترناه من تحقّق
- (1) فوائد الاُصول 4: 280.
- (2) وهي ما تقدّم منه: من أنّ متعلّق العلم إذا كان عنواناً ليس بنفسه مردّداً بين الأقلّ والأكثر من أوّل الأمر، بلالمعلوم بالإجمال هو العنوان بما له في الواقع من الأفراد ـ كما لو علم بموطوئيّة البيض من هذا القطيع،وتردّدت البيض بين كونها عشراً أو عشرين ـ لا ينحلّ العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي بمقدار يحتملانحصار المعلوم بالإجمال فيه والشكّ البدوي. راجع فوائد الاُصول 4: 279. منه مدّ ظلّه.
(صفحه352)
الانحلال مطلقاً، سواء تعلّق العلم الإجمالي بالعنوان أو بغيره، ولذا قلنبالانحلال في كلا المثالين المتقدِّمين في كلام هذا المحقّق الكبير: وهما ما إذا تعلّقالعلم الإجمالي بأنّ في هذا القطيع من الغنم موطوءً وتردّد بين كونه عشرة أوعشرين، وما إذا تعلّق بموطوئيّة البيض من هذا القطيع، وتردّدت البيض بينكونها عشراً أو عشرين.
لكن قد عرفت أنّ الجواب المختار من أصل الدليل، هو أنّ مسألة العلمالإجمالي لا ترتبط بالمقام أصلاً، لأنّا نبحث في شرائط جريان أصالة البراءةالتي مجراها هو الشكّ في التكليف، والعلم الإجمالي يرتبط بالشكّ في المكلّف بهالذي يجري فيه الاشتغال.
هذا تمام الكلام في الدليل العقلي على وجوب الفحص، وقد قرّرناه بوجهمقبول في بداية البحث، وإن كان الوجهان الأخيران ـ وهما مسألة الظلم علىالمولى، ومسألة العلم الإجمالي ـ غير مقبولين، كما عرفت.
البحث حول قيام الإجماع على وجوب الفحص
وأمّا الإجماع: فهو اتّفاق جميع العلماء على عدم جواز التمسّك بالبراءةالعقليّة قبل الفحص.
لكن يرد عليه أوّلاً: أنّ بيان حدود المسائل العقليّة وضوابطها إنّما هو بيدالعقل، ولا مجال للأدلّة التعبّديّة فيها، فلو فرض دلالة العقل على «قبح العقاببلا بيان» حتّى قبل الفحص، فلا يمكن ردّه لأجل مثل الإجماع. ألا ترى أنّهيجب تأويل قوله تعالى: «وَجَاءَ رَبُّكَ»(1)، لأجل حكم العقل بعدم تجسّمهتعالى وما يلزم منه؟
ج5
وثانياً: أنّ الإجماع لا يكون دليلاً مستقلاًّ فيما إذا كان مدركه معلوماً أومحتملاً، كما فيما نحن فيه، فإنّا نحتمل قويّاً أن يكون مستند المجمعين ما اخترناهلإثبات وجوب الفحص، وهو عدم جريان قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» قبلالفحص بالتقريب الذي تقدّم منّا(1).
البحث حول دلالة الآيات والروايات على وجوب الفحص
وأمّا الكتاب والسنّة: فالحقّ هو دلالة بعض الآيات والروايات علىوجوب التفقّه والتتبّع والتعلّم.
لكن يحتمل قويّاً أن تكون إرشاداً إلى حكم العقل، لا حكماً تعبّديّبتأسيس الشارع، فإنّ العقل يستقلّ بالحكم بلزوم التفقّه في الدين وتعلّمأحكام المولى الواقعي.
وبالجملة: لا يبعد أن يكون هذا النوع من الآيات والروايات تأكيداً لحكمالعقل، وإرشاداً إليه، مثل قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللّهَ»(2)، حيث إنّ العقل يحكمبوجوب إطاعة اللّه تعالى، وهذه الآية الشريفة تكون إرشاداً إلى حكمه.
وتلخّص من جميع ما تقدّم أنّ جريان البراءة العقليّة في الشبهات الحكميّةيتوقّف على وجوب الفحص، ولا يدلّ عليه إلاّ دليل واحد، وهو أنّ العقل ليحكم قبل الفحص بـ «قبح العقاب بلا بيان»، وهذا دليل قويّ لا يمكنالمناقشة فيه.
مقدار الفحص اللازم لإجراء البراءة