(صفحه138)
بنجاسة الآخر كما لا يخفى، فيتنجّز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين،وهو الواحد أو الاثنين(1)، إنتهى كلامه رحمهالله .
وهو حقّ متين.
وتوضيحه يبتني على ملاحظه أمرين من الاُمور التي ذكرناها في بدايةالبحث:
أ ـ أنّ نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ حكم وضعي تعبّدي مستقلّ، ولها دليلغير ما دلّ على نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ .
ب ـ أنّ الشيء الواحد لا يمكن أن ينكشف مرّتين.
فإذا كانت الملاقاة بعد العلم إجمالاً بنجاسة أحد الطرفين(2) فلا إشكال فيتأثير العلم الإجمالي في وجوب الاجتناب عن كل واحد من الطرفين، لكونالعلم الإجمالي منجّزا للتكليف في أيّ طرف كان، وأمّا الملاقي لأحدهما فلوجه لوجوب الاجتناب عنه، لأنّ ما يتخيّل في وجهه أمران كلاهما مردودان:
أ ـ ما دلّ على وجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ .
وقد عرفت جوابه في المقدّمة الثانية(3).
ب ـ أنّه يحصل لنا بعد الملاقاة علم إجمالي آخر، ضرورة أنّ اليد إذا لاقتالإناء الواقع في اليمين نعلم إجمالاً بأنّه إمّا أن تكون اليد نجسة أو الإناء الواقعفي اليسار، فاليد تكون طرفا للعلم الإجمالي الثاني، فيجب الاجتناب عنها، كميجب الاجتناب عن الإناء الواقع في اليسار.
وفيه: أنّ هذا العلم الإجمالي الثانوي لا يمكن أن يكون منجّزا، لأنّ منشرائط تنجيز العلم الإجمالي أن يكون مؤثّرا على كلّ تقدير، مع أنّه لا يكاد
- (2) وهو الصورة الاُولى في كلام المحقّق الخراساني رحمهالله . م ح ـ ى.
- (3) وهو أنّ نجاسة كلّ من النجس وما يلاقيه حكم تعبّدي مستقلّ دلّ عليه دليل مستقلّ. م ح ـ ى.
ج5
يكون كذلك في المقام، ضرورة أنّه لا يمكن أن يكون منجّزا بالنسبة إلى الإناءالواقع في اليسار، لتأثير العلم الإجمالي الأوّل في وجوب الاجتناب عنه، وقدعرفت في المقدّمة الثالثة أنّه لا يمكن الكشف والتنجيز في شيء واحد مرّتين،فلا أثر للعلم الإجمالي الثاني أصلاً، فيبقى الملاقي مشكوك الطهارة والنجاسة،فتجري فيه أصالة الطهارة.
ويجري نظير هذا البيان في عكس هذه الصورة، وهو ما إذا علم إجمالنجاسة الملاقي(1) ـ بالكسر ـ أو نجاسة شيء آخر، ثمّ حدث العلم بالملاقاة،والعلم بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو ذاك الشيء أيضاً.
ففي هذه الصورة يجب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ وعن ذلك الشيءالآخر، لكونهما طرفي العلم الإجمالي الأوّل الذي يؤثّر في تنجّز التكليف علىكلّ تقدير.
بخلاف الملاقى ـ بالفتح ـ فإنّه طرف للعلم الإجمالي الثاني الذي لا يكاديكون مؤثّرا على كلا التقديرين، لعين ما ذكرناه في الصورة الاُولى، فلا أثرلهذا العلم أصلاً، فيبقى الملاقى ـ بالفتح ـ مشكوك الطهارة والنجاسة، فتجريفيه أصالة الطهارة.
هذا توضيح كلام المحقّق الخراساني رحمهالله .
نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
واستشكل عليه المحقّق النائيني رحمهالله بالنسبة إلى الصورة الثانية بقوله: وليخفى عليك: أنّ هذا التفصيل مبنيّ على كون حدوث العلم الإجمالي بما أنّه علموصفة قائمة في النفس تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الأطراف وإن
- (1) لكن لا بعنوان «الملاقي» بل بعنوان «اليد» مثلاً، كما تقدّم في هامش ص141. م ح ـ ى.
(صفحه140)
تبدّلت صورته وانقلبت عمّا حدثت عليه، لأنّه يكون المدار حينئذٍ على حالحدوث العلم، ومن المعلوم: أنّه قد يكون متعلّق العلم الإجمالي حال حدوثههو نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف، وقد يكون هو نجاسة الملاقى ـ بالفتح أو الطرف، وقد يكون هو نجاستهما معا أو الطرف.
ولكنّ الإنصاف: فساد المبنى بمثابة لا سبيل إلى الالتزام به، ضرورة أنّالمدار في تأثير العلم الإجمالي إنّما هو على المعلوم والمنكشف لا على العلموالكاشف، وفي جميع الصور المفروضة رتبة وجوب الاجتناب عن الملاقىـ بالفتح ـ والطرف سابقة على وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ وإنتقدّم زمان العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف على العلمالإجمالي بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف، لأنّ التكليف في الملاقي إنّما جاءمن قبل التكليف بالملاقى، فلا أثر لتقدّم زمان العلم وتأخرّه بعدما كان المعلومفي أحد العلمين سابقا رتبةً أو زمانا على المعلوم بالآخر.
ووضوح الأمر وإن كان بمثابة لا يحتاج إلى إطالة الكلام فيه، إلاّ أنّه لبأس بزيادة بيان لإزاحة الشبهة.
فنقول: إنّه يعتبر في تأثير العلم الإجمالي واقتضائه التنجيز بقائه على صفةحدوثه وعدم تعقّبه بما يوجب انحلاله وتبدّل المنكشف به، لأنّ اعتبار العلمالإجمالي إنّما هو لكونه طريقا وكاشفا عن التكليف المولوي، فلابدّ من انحفاظطريقيّته وكاشفيّته، وهو إنّما يكون ببقائه على صفة حدوثه وعدم حدوث ميوجب تغييرا في ناحية المعلوم، فالعلم الإجمالي بوجوب الاجتناب عن أحدالشيئين إنّما يقتضي الاجتناب عنهما إذا لم يحدث ما يقتضي سبق التكليفبالاجتناب عن أحدهما ولو كان ذلك علما إجماليّا آخر كان المعلوم به سابقفي الزمان أو الرتبة على المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل، وإلاّ كان المدار على
ج5
العلم الإجمالي الثاني الذي سبق معلومه معلوم الأوّل وسقط العلم الإجماليالأوّل عن الاعتبار.
فلو علم بوقوع قطرة من الدم في أحد الإنائين، ثمّ بعد ذلك علم بوقوعقطرة اُخرى من الدم في أحد هذين الإنائين أو في الإناء الثالث، ولكن ظرفوقوع القطرة المعلومة ثانيا أسبق من ظرف وقوع القطرة المعلومة أوّلاً، فلينبغي التأمّل في أنّ العلم الإجمالي الثاني يوجب انحلال الأوّل، لسبق معلومهعليه، ومن الواضح: أنّ العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ والطرفدائما يكون المعلوم به متأخّرا عن المعلوم بالعلم الإجمالي بنجاسة الملاقىـ بالفتح ـ والطرف، تقارن العلمان في الزمان، أو تقدّم تعلّق العلم بالملاقيـ بالكسر ـ على تعلّق العلم بالملاقى أو انعكس الأمر، لما عرفت: من أنّه لعبرة بزمان حدوث العلم، بل العبرة بزمان حدوث المعلوم، والنجاسةالمعلومة بين الملاقى ـ بالفتح ـ والطرف تكون أسبق من النجاسة المعلومة بينالملاقي ـ بالكسر ـ والطرف في جميع الصور، ففي أيّ زمان يحدث العلمالإجمالي بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ والطرف يسقط العلم الإجمالي بنجاسةالملاقي والطرف عن التأثير، لأنّه يتبيّن سبق التكليف بالاجتناب عن أحدطرفيه وهو طرف الملاقى ـ بالفتح ـ فتكون الشبهة بالنسبة إلى الملاقيـ بالكسر ـ بدويّة تجري فيه أصالة الطهارة بلا معارض.
هذا كلّه، مضافا إلى أنّ الذوق يأبى عن أن يكون الحكم وجوبالاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ دون الملاقى، مع أنّ التكليف به إنّما يأتي منقبل التكليف بالملاقى ـ بالفتح ـ (1)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه رحمهالله .
نقد نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله من قبل الإمام الخميني«مدّ ظلّه»
- (1) فوائد الاُصول 4: 86 .
(صفحه142)
وناقش فيه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» أوّلاً: بأنّ الإشكال ليس فيناحية الملاقي والملاقى كي يقال: قضيّة العلّيّة والمعلوليّة هي تقدّم رتبة النجاسةفي الملاقى ـ بالفتح ـ عليها في الملاقي ـ بالكسر ـ ، بل الإشكال في الطرفالآخر، حيث عرفت أنّه لا يمكن تأثير العلم الإجمالي الثاني فيه بعد العلمالإجمالي الأوّل، لعدم إمكان الانكشاف في شيء واحد مرّتين.
وثانيا: أنّه لا مجال في المقام لملاحظة التقدّم والتأخّر الرتبيّين، ضرورة أنّمنجّزيّة العلم الإجمالي من آثار وجوده الخارجي، لا من آثار ماهيّته أووجوده الذهني، وتقدّم رتبة العلّة على المعلول إنّما هو ممّا حكم به العقل، وليرتبط بوجود هما الخارجي، إذ ثبت في محلّه أنّهما متقارنان بحسبه.
والحاصل: أنّ الحجّيّة من آثار وجود العلم الإجمالي الخارجي، فتمام الملاكفي حجّيّته هو التقدّم والتأخّر في حدوثه خارجا، لا التقدّم والتأخّر الرتبيّاناللذان وعائهما هو العقل.
وأمّا المثال الذي ذكره رحمهالله فهو وإن كان صحيحا إلاّ أنّه لا يرتبطبالمقام، ضرورةأنّ العلم بأسبقيّة ظرف وقوع القطرة المعلومة ثانيا من ظرفوقوع القطرة المعلومة أوّلاً، كاشف عن عدم تعلّق العلم الإجمالي الأوّلبالتكليف، وإن كنّا نتخيّل ـ قبل حدوث العلم الإجمالي الثاني ـ أنّه تعلّق به،وذلك لأنّا نحتمل ـ بعد حدوث العلم الإجمالي الثاني ـ أنّ القطرة المعلومةبالعلم الإجمالي الأوّل وقعت في نفس الإناء الذي وقعت فيه ـ قبل ذلك القطرة المعلومة بالعلم الإجمالي الثاني، فالقطرة المعلومة بالعلم الإجمالي الثانيتؤثّر في التكليف قطعا، دون المعلومة بالعلم الإجمالي الأوّل، لسبق الاُولىولحوق الثانية.
وهذا بخلاف المقام، فإنّ كلا العلمين الإجماليّين هاهنا تعلّقا بالتكليف، غاية