(صفحه204)
لكنّ المحقّق النائيني رحمهالله قال بعدم جريان البراءة في موارد الدوران بينالجنس ونوعه، لأنّ الترديد بينهما وإن كان يرجع بالتحليل العقلي إلى الأقلّوالأكثر، إلاّ أنّه بنظر العرف يكون من الترديد بين المتباينين، لأنّ الإنسان بمله من المعنى المرتكز في الذهن مباين للحيوان عرفاً، فلو علم إجمالاً بوجوبإطعام الإنسان أو الحيوان، فاللازم هو الاحتياط بإطعام خصوص الإنسان،لأنّ أصالة البراءة في كلّ منهما تجري وتسقط بالمعارضة مع الآخر، فيبقى العلمالإجمالي على حاله، ولابدّ من العلم بالخروج من عهدة التكليف، ولا يحصلذلك إلاّ بإطعام خصوص الإنسان، لأنّه جمع بين الأمرين، فإنّ إطعام الإنسانيستلزم إطعام الحيوان أيضاً(1)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه رحمهالله .
نقد كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
ويرد عليه أوّلاً: أنّ نظر العرف إنّما يكون متّبعاً في الأدلّة اللفظيّة، ونحنلا نبحث فعلاً عن البراءة الشرعيّة التي تستفاد من مثل حديث الرفع، بلالبحث في البراءة العقليّة، فرأي العرف لا يكون متّبعاً، بل المتّبع هو نظر العقل،والعقل لا يرى بين الجنس ونوعه تبايناً وتغايراً.
وثانياً: أنّ الإنسان والحيوان وإن كانا بنظر العرف من قبيل المتباينين، لكنليس جميع موارد الترديد بين النوع والجنس كذلك، كما إذا دار الأمر بينالحيوان والفرس، فإنّهما ليسا بنظرهم من قبيل المتباينين.
وبالجملة: إشكاله يرجع إلى المناقشة في المثال.
وثالثاً: أنّ الدوران بين الإنسان والحيوان لو كانا من قبيل المتباينين، فلابدّمن الجمع بين إطعامهما في مقام الامتثال، ولا معنى لما ذكره من أنّ طريق
- (1) فوائد الاُصول 4: 208.
ج5
الاحتياط إنّما هو بإطعام الإنسان، لأنّ إطعامه يستلزم إطعام الحيوان، فإنّمساوقة إتيان النوع لإتيان الجنس مبنيّ على ما اخترناه من عدم التباينبينهما، لا على ما اختاره المحقّق النائيني رحمهالله من كونهما متباينين.
وبعبارة اُخرى: إتيان النوع مساوق لإتيان الجنس بالتحليل العقلي الذييكون متّبعاً وملاكاً عندنا، لا بنظر العرف الذي يكون ملاكاً عند هذا المحقّقالكبير.
وبالجملة: الجمع بين القول برجوع الدوران بين الجنس والنوع إلى الدورانبين المتباينين، وبين الالتزام بكفاية إتيان النوع في تحقّق الاحتياط ـ بدعوىأنّ الإتيان بالنوع يستلزم الإتيان بالجنس ـ من الغرائب.
ثمّ إنّ الشرط قد يكون مبايناً للمشروط في الوجود، وقد يكون متّحداً معهـ كما أشرنا إليه في أوائل هذا المبحث(1) ـ وأيضاً قد يكون اختياريّاً، كالإيمانبالنسبة إلى الرقبة والطهارة بالنسبة إلى الصلاة، وقد يتحقّق قهريّاً، كالسيادة،ولبعض الاُصوليّين تفصيلات بلحاظ مثل هذين التقسيمين، لكن لا نطيلبذكرها.
هذا تمام الكلام في البراءة العقليّة، وقد ثبت جريانها في موارد الدوران بينالمطلق والمشروط، وبين الجنس والنوع، وبين الطبيعي والفرد كلّها.
القول في جريان البراءة الشرعيّة في المسألة
ولا إشكال في جريان البراءة الشرعيّة أيضاً في جميع المواضع الثلاثة بناءًعلى القول بالانحلال ـ كما هو المختار ـ لأنّ الزائد على ما علم تفصيلاً مشكوك،فيرفعه حديث الرفع.
(صفحه206)
وأمّا بناءً على عدم الانحلال فالحقّ عدم جريان البراءة الشرعيّة، لأنّجريان الأصل في أحد طرفي العلم الإجمالي معارض بجريانه في الطرفالآخر.
كلام صاحب الكفاية في المقام
لكنّ المحقّق الخراساني رحمهالله ـ مع قوله بعدم جريان البراءة العقليّة مطلقاً،بدعوى عدم انحلال العلم الإجمالي ـ فصّل في البراءة الشرعيّة، فقال بجريانهفيما إذا كان الدوران بين المطلق والمشروط، وبعدم جريانها فيما إذا كان بينالجنس والنوع، بدعوى أنّ مثل حديث الرفع يدلّ على عدم شرطيّة ما شكّفي شرطيّته في الأوّل ولا يدلّ على عدم اعتبار الخصوصيّة النوعيّة في الثاني،والفرق بينهما أنّ الشرطيّة أمرٌ زائد على المشروط ولا تكون منتزعة عنه، فإذشككنا فيها ترفع بحديث الرفع، بخلاف خصوصيّة الخاصّ، فإنّها لا تكونأمراً زائداً عليه، بل هي منتزعة عنه، فلا يكون الخاصّ معلوماً والخصوصيّةمشكوكة كي تجري البراءة الشرعيّة فيها، بل يكون الدوران بين الخاصّوغيره من قبيل الدوران بين المتباينين(1).
هذا حاصل ما أفاده رحمهالله في المقام.
نقد كلام المحقّق الخراساني رحمهالله
ويرد عليه أوّلاً: أنّه على القول بعدم الانحلال وكون المطلق والمشروط منقبيل المتباينين لا مجال لإجراء حديث الرفع في المقام، لابتلائه بالمعارض كمقلنا في الشكّ في الجزئيّة، بل الأمر هاهنا أوضح بناءً على ما ذكره المحقّق
ج5
الخراساني رحمهالله من أنّ الانحلال المتوهّم هناك لا يكاد يتوهّم هاهنا، فعدمجريان البراءة الشرعيّة لابدّ من أن يكون أوضح هاهنا.
وثانياً: أنّا لو سلّمنا جريان البراءة الشرعيّة في موارد الشكّ في الشرطيّةفالتفصيل غير صحيح، لأنّا نعلم في الدوران بين الجنس والنوع أيضاً أنّإطعام الحيوان مثلاً مأمور به، ولكن نشكّ في اعتبار خصوصيّة الإنسانيّة فيه،فيشمله حديث الرفع، وكون الشرطيّة أمراً زائداً على المشروط غير منتزعةعنه دون خصوصيّة الخاصّ لا يكون فارقاً، خصوصاً على ما ذهب إليهصاحب الكفاية من أنّ الشرطيّة ليست مجعولةً من قبل الشارع، فلا فرق بينهوبين الخصوصيّة النوعيّة في عدم مجعوليّتهما، فلا وجه للقول بجريان البراءة فيموارد الشكّ في الشرطيّة دون موارد الشكّ في الخصوصيّة النوعيّة.
والحاصل: أنّا لو التزمنا بانحلال العلم الإجمالي ـ كما هو الحقّ ـ تجريالبراءة الشرعيّة أيضاً، ولو التزمنا بعدم الانحلال فلا تجري، ولا فرق في ذلكبين الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة أو دخل الخصوصيّة النوعيّة أو الشخصيّة.
(صفحه208)
في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات
البحث في الأسباب والمحصّلات
تحرير محلّ النزاع
قبل الشروع في البحث لابدّ من بيان حدود البحث وثغوره، فنقول:
إذا تعلّق الأمر بشيء معلوم عندنا بدون أن يكون فيه إجمال وإبهام ولكنّهكان مسبّباً عن شيء آخر، فإن كان السبب مردّداً بين الأقلّ والأكثر، إمّلأجل الشكّ في جزئيّة شيء للسبب أو في شرطيّته أو غير ذلك فهذا ما يعبّرعنه بدوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات.
والسبب تارةً: يكون عقليّاً، كما إذا اُمرنا بقتل شخص مفسد في الأرض،وعلمنا أنّ سبب قتله هو السلاح، ورمينا إليه سهماً، لكن شككنا في تحقّقالقتل، لظلمة أو غيرها، فلم نعلم أنّ رمي سهم آخر لازم علينا أم لا؟فالسبب العقلي يكون مردّداً بين الأقلّ والأكثر.
واُخرى: عاديّاً، كما إذا نذرنا تنظيف المسجد، لكن شككنا في أنّه يتحصّلبمجرّد كنسه أو بضميمة رشّ الماء إليه، فالسبب العادي يكون مردّداً بين الأقلّوالأكثر.
وثالثةً: شرعيّاً، كما إذا اُمِرنا أن نملّك زيداً كتاباً وعلمنا أنّ سبب تمليكه هوالبيع، لكن شككنا في أنّ العربيّة معتبرة في صيغة البيع أم لا؟ فالسبب