ج5
لكنّهم اختلفوا في وجه عدم جريان الاُصول في موارد العلم الإجمالي علىقولين:
1ـ أنّ جريانها يستلزم المخالفة القطعيّة العمليّة.
فعلى هذا يختصّ المنع بموارد استلزامها(1)، بخلاف ما إذا لم يمكن المخالفةالقطعيّة، كما في المقام.
2ـ أنّه يستلزم التناقض في أدلّة الاُصول.
توضيح ذلك: أنّ قوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقين أبداً بالشكّ، وإنّما تنقضه بيقينآخر»(2) بصدره يقتضي استصحاب عدم كلّ من الوجوب والحرمة في المقام،وبذيله يقتضي عدم جريان أحد الاستصحابين، للعلم بتبدّل عدم أحدالحكمين إلى الوجود، فيعمّه قوله عليهالسلام : «وإنّما تنقضه بيقين آخر» فالحكمبجريان كلا الاستصحابين بمقتضى الصدر، وبعدم جريان أحدهما بمقتضىالذيل، تناقض واضح.
فلابدّ من القول بعدم شمول الاُصول العمليّة لموارد العلم الإجمالي،سواء كان من قبيل الدوران بين المحذورين كما في المقام، أو من قبيلسائر الموارد.
هذا تمام الكلام في الصورة الاُولى التي هي القدر المتيقّن من محلّ النزاع فيأصالة التخيير، وهي ما إذا دار الأمر بين وجوب الشيء وحرمته ولم يكنأحدهما أهمّ من الآخر.
الصورة الثانية: أن يتمركز الوجوب والحرمة في شيء واحد ـ كالصورةالسابقة ـ لكن كان أحدهما المعيّن أرجح من الآخر قطعا أو احتمالاً:
- (1) كالعلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة، أو بوجوب هذا الشيء أو حرمة ذلك الشيء الآخر.م ح ـ ى.
- (2) وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 1.
(صفحه26)
فإن كان الرجحان قويّا بحيث لو كان ذو الرجحان مشتبها بالشبهة البدويّةلما جرت أصالة البراءة ـ كما إذا كانت المرأة الفلانيّة مردّدة بين الاُمّ والزوجة،فلاتجري البراءة من حرمة وطئها، لقوّة الرجحان الذي في جانب الحرمة فلاتجري أصالة التخيير أيضاً فيما إذا دار الأمر بين المحذورين، كما إذا كانتالزوجة في المثال محلوفا على وطئها، بل لابدّ من رعاية جانب الحرمة، لأنّوطئ الزوجة وإن كان واجبا حينئذٍ، إلاّ أنّ حرمة وطئ الاُمّ ذات أهمّيّة قويّةتمنع من جريان أصالة التخيير، كما كانت تمنع من جريان أصالة البراءة فيالشبهات البدويّة.
وأمّا إذا كان في البين رجحان في الجملة، ولكن لا بحيث يوجب رعاية ذيالمزيّة ويمنع من جريان البراءة في الشبهات البدويّة فهل يمكن التمسّك بأصالةالتخيير أم لا؟
كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في المسألة ونقده
قال المحقّق الخراساني رحمهالله : لا، لأنّه من قبيل دوران الأمر بين التعيينوالتخيير، فلابدّ من رعاية محتمل التعيين، لأنّ المكلّف عند رعايته يقطعببراءة ذمّته، دون ما إذا أخذ بما يقابله، والاشتغال اليقيني يستدعي البراءةاليقينيّة(1).
وفيه: أنّ ما نحن فيه ليس من مصاديق الدوران بين التعيين والتخيير، لأنّالدوران بينهما يختصّ بما إذا كان لنا تكليف منجّز معلوم، لكن كان متعلّقهمردّدا بين التعيين في شيء وبين التخيير بينه وبين شيء آخر(2).
- (2) كما إذا علمنا بوجوب صلاةٍ يوم الجمعة، لكن شككنا في أنّها متعيّنة في الظهر، أو مخيّرة بينها وبينالجمعة. م ح ـ ى.
ج5
والمقام ليس كذلك، ضرورة أنّه ليس لنا تكليف منجّز معلوم، لما عرفت(1)من أنّ العلم الإجمالي تعلّق بتكليف إلزامي مردّد بين الوجوب والحرمة، وليمكن أن يتنجّز به ذلك التكليف الكلّي، لعدم قدرة المكلّف على موافقته أومخالفته قطعا، وأنّ الموافقة والمخالفة الاحتماليّة أمرٌ قهري، سواء كان العلمالإجمالي أو لم يكن.
وبالجملة: لا يجب رعاية ذي المزيّة في هذا القسم من الصورة الثانية، بلتجري فيه أصالة التخيير.
الصورة الثالثة: ما إذا كان الدوران بين المحذورين في وقايع متعدّدة، كما إذشككنا في وجوب صلاة الجمعة وحرمتها في كلّ جمعة.
ولا ريب في جريان التخيير في الواقعة الاُولى، إذ لا فرق في ذلك بين ملايقبل التكرار وبين الواقعة الاُولى ممّا يقبله، كما هو واضح لا يخفى.
إنّما الإشكال والكلام في أنّ التخيير هل يكون استمراريّا، فيجري في سائرالوقايع أيضاً، أو بدويّاً، فيجب دائما الأخذ بما اختاره من الفعل والترك فيالواقعة الاُولى؟
ولا يخفى عليك أنّه يتولّد من العلم الإجمالي في هذه الصورة علمانإجماليّان آخران متلازمان، لأنّا إذا علمنا بوجوب صلاة الجمعة أو حرمتها،علمنا أيضاً بأنّ صلاة الجمعة إمّا تجب في هذا الاُسبوع أو تحرم في الاُسبوعالآتي، وعلمنا أيضاً بأنّها إمّا تحرم في هذا الاُسبوع أو تجب في الاُسبوعالآتي، ولاريب في أنّ كلاًّ من العلمين الأخيرين يمكن موافقته ومخالفتهالقطعيّة، لكنّ الموافقة القطعيّة لكلّ منهما عين المخالفة القطعيّة للآخر،
(صفحه28)
فإنّا لو أتينا بصلاة الجمعة في الاُسبوع الأوّل وتركناها في الاُسبوع الثاني،لتحقّقت الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي الأوّل والمخالفة القطعيّة للثاني،ولو تركناها في الاُسبوع الأوّل وأتينا بها في الاُسبوع الثاني انعكس الأمركما لا يخفى.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّهم اختلفوا في أنّ المخالفة القطعيّة هل هي أهمّ منالموافقة القطعيّة أو تتساويان؟
استدلّ من قال بالأهمّيّة بأنّ المخالفة القطعيّة علّة تامّة للحرمة، وأمّا الموافقةالقطعيّة فمقتضية للوجوب، بمعنى أنّها واجبة لو لم يمنع من وجوبها مانع.
فعلى هذا كان التخيير في المقام بدويّا، لأنّه لو كان استمراريّا وعملالمكلّف في الواقعة الثانية على خلاف ما عمله في الواقعة الاُولى لتحقّقتالمخالفة القطعيّة(1) للعلم الإجمالي، وقد فرض كونها علّة تامّة للحرمة.
والحقّ أنّه لا فرق بينهما، بل كما أنّ المخالفة القطعيّة علّة تامّة للحرمة والقبحاللازم الاجتناب، كذلك الموافقة القطعيّة علّة تامّة للوجوب والحسن اللازمالارتكاب.
فلا منع من التخيير الاستمراري؛ لأنّ المكلّف إذا صلّى الجمعة في اُسبوعوتركها في اُسبوع آخر تحقّقت الموافقة والمخالفة القطعيّة كلتاهما، ولا ترجيحبينهما فرضا.
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المسألة
وللمحقّق النائيني رحمهالله طريق آخر لإثبات استمراريّة التخيير، حيث قال
- (1) وهذه المخالفة القطعيّة وإن كانت عين الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي الآخر، إلاّ أنّ الموافقة القطعيّة لتكون إلاّ مقتضية للوجوب فرضا، فتأثيرها مشروط بعدم المانع. م ح ـ ى.
ج5
ما محصّله:
إنّ المخالفة القطعيّة لم تكن محرّمة شرعا، بل هي قبيحة عقلاً(1)،وقبحها فرع تنجّز التكليف، فإنّ مخالفة التكليف الغير المنجّز لا قبح فيها،كما إذا اضطرّ إلى أحد أطراف المعلوم بالإجمال، فصادف الواقع، فإنّهمع حصول المخالفة يكون المكلّف معذورا، وليس ذلك إلاّ لعدم تنجّز التكليف،وفيما نحن فيه لا يكون التكليف منجّزا في كلّ واقعة، لأنّ في كلّ منهيكون الأمر دائرا بين المحذورين، وكون الواقعة ممّا تتكرّر لا يوجب تبدّلالمعلوم بالإجمال، ولا خروج المورد عن الدوران بين المحذرين، فإنّمتعلّق التكليف إنّما هو كلّ واقعة مستقلّة، ولا يلاحظ انضمام بعضها إلىبعض، حتّى يقال: إنّ الأمر فيها لا يدور بين المحذورين، لأنّ المكلّفيتمكّن من الفعل في جميع الوقايع المنضمّة، ومن الترك في جميعها أيضاً،ومن التبعيض، ففي بعضها يفعل وفي بعضها الآخر يترك، ومع اختيارالتبعيض تتحقّق المخالفة القطعيّة؛ لأنّ الواجب عليه إمّا الفعل في الجميعوإمّا الترك في الجميع، وذلك: لأنّ الوقايع بقيد الانضمام لم يتعلّق التكليفبها، بل متعلّق التكليف كلّ واقعة مستقلّة بحيال ذاتها، فلابدّ من ملاحظتهمستقلّة، ففي كلّ واقعة يدور الأمر فيها بين المحذورين ويلزمه التخييرالاستمراري.
والحاصل: أنّ التخيير البدوي في صورة تعدّد الواقعة يدور مدارأحد أمرين: إمّا من حرمة المخالفة القطعيّة شرعا ليجب التجنّب
- (1) بعض المستقلاّت العقليّة تستتبع الحكم الشرعي، كقبح الظلم الذي تلزمه الحرمة الشرعيّة، وبعضها لتستتبعه، كقبح مخالفة التكليف الشرعي، فإنّه لو كان مستلزماً للحرمة شرعا لاستحقّ من ترك الصلاة مثلعقوبتين: إحداهما: لأجل ترك الواجب الذي هو الصلاة، والثانية: لأجل فعل الحرام الذي هو مخالفةالتكليف، ولا يمكن الالتزام بذلك. منه مدّ ظلّه توضيحا لكلام المحقّق النائيني رحمهالله .