وناقش العلماء في هذا المثال بأنّه من قبيل الشكّ في المحصّل، لا من قبيلالشبهة الموضوعيّة التي هي محلّ البحث.
لكنّ المناقشة غير صحيحة، فإنّه رحمهالله عنى بالطهور نفس الفعل الرافعللحدث كما صرّح به في كلامه، والفعل الرافع هو نفس الوضوء والغسل،فالمأمور به يكون مردّداً بين الأقلّ والأكثر، لا أنّه مسبّب ممّا يردّد بينهما.
نعم، لو قيل: إنّ الطهور هي الطهارة النفسانيّة التي في مقابل الحدثالمتحصّلة من الوضوء والغسل، لكان هذا المثال من قبيل الشكّ في المحصّل،لكنّه لم يرد من الطهور هذا المعنى، فلا يرد عليه الإشكال في هذا المثال(3).
وكيف كان، فما مقتضى حكم العقل في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر فيالشبهة الموضوعيّة؟
وليعلم أنّ النزاع وإن كان في الأقلّ والأكثر الارتباطي، إلاّ أنّه ينبغيالبحث عن الأقلّ والأكثر الاستقلالي أيضاً هاهنا تبعاً، وذلك لأنّ الشبهاتالموضوعيّة الشائعة بينهم من أوّل البراءة إلى هنا ترجع إلى دوران الأمر بينالأقلّ والأكثر الاستقلالي في الشبهة الموضوعيّة، ألا ترى أنّا إذا شككنا فيحلّيّة مايع وحرمته لأجل الشكّ في خمريّته وخلّيّته(1)، شككنا واقعاً في أنّدليل حرمة شرب الخمر هل يختصّ بالأفراد المعلومة من الخمر أو يعمّ مشكّ في فرديّته أيضاً؟
ولأجل رجوع الشبهات الموضوعيّة الشائعة إلى الأقلّ والأكثرالاستقلاليّين لم نتعرّض لها في المباحث السابقة، بل أخّرنا البحث عنها إلىهنا.
وبالجملة: ينبغي تعميم النزاع هاهنا بحيث يعمّ الدوران بين الأقلّ والأكثرالارتباطيّين والاستقلاليّين كليهما، فنقول:
الأقوال في المسألة ثلاثة:
أ ـ جريان البراءة العقليّة مطلقاً.
ب ـ عدم الجريان مطلقاً.
ج ـ التفصيل بين الاستقلاليّين والارتباطيّين، فتجري في الأوّل دون الثاني.
نظريّة المحقّق العراقي رحمهالله في المقام
اختار المحقّق العراقي رحمهالله القول الأوّل، واستدلّ عليه بأنّا إذا شككنا في خمريّةمايع مثلاً، نشكّ في سعة التكليف المتعلّق بالخمر وضيقه، فلو كان في الواقعخمراً، فالتكليف يشمله، ولو لم يكن خمراً فلا يشمله، وإذا شكّ في سعة الحكموضيقه فالمرجع هو البراءة، كما إذا شكّ في أصل الحكم، فإنّ العقل يحكم في
- (1) وهذا هو المثال المشهور بينهم في الشبهة الموضوعيّة. منه مدّ ظلّه.
ج5
كليهما بقبح العقاب بلا بيان.
والأمر هكذا في الارتباطيّين، فإنّ المولى إذا قال بنحو العامّ المجموعي:«أكرم مجموع العلماء» وشكّ العبد في عالميّة زيد مثلاً فإنّه يشكّ في سعة الحكمالصادر منه وضيقه، والمرجع فيه هو البراءة، كما إذا شكّ في أصل التكليف،فإنّ العقل يحكم في كليهما بقبح العقاب بلا بيان(1).
هذا محصّل كلامه رحمهالله .
دليل القول بوجوب الاحتياط في المسألة مطلقاً
وفي مقابله من ذهب إلى عدم جريان البراءة مطلقاً، لأنّ حكم العقل بقبحالعقاب بلا بيان ينحصر فيما إذا كان البيان من وظائف الشارع، ورفع الشكّ فيالشبهة الموضوعيّة ليس وظيفته، سواء كانت الشبهة الموضوعيّة من قبيلالأقلّ والأكثر الاستقلاليّين أو الارتباطيّين، فإنّا إذا شككنا في خمريّة شيءليس على الشارع أن يبيّن أنّه خمر أو ليس بخمر، فالعقاب على شرب الخمرالمشكوك ليس ممّا يحكم العقل بقبحه.
بل لو كان الحاكم من الموالي العرفيّة لم يكن كلامه في تعيين الموضوعاتحجّة، فلو قال: «اجتنب عن الخمر» ثمّ قال: «هذا المايع خمر» لم يثبت بقولهالخمريّة.
والحاصل: أنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشبهات الموضوعيّة يكونمجرى الاشتغال مطلقاً، ولا مجال لجريان البراءة فيه أصلاً، لأنّ بيان الموضوعليس على الحاكم، بل لم يكن حجّة إذا كان الحاكم من الموالي العرفيّة.
بيان ما هو الحقّ في المسألة
- (1) نهاية الأفكار 3: 409.