هذا إذا لم يكن المكلّف ذاكراً في أوّل الوقت ثمّ عرض له النسيان في الأثناء،وإلاّ فيجري استصحاب التكليف الثابت عليه في أوّل الوقت، للشكّ فيسقوطه بسبب النسيان الطارئ الزائل في الوقت(2)، إنتهى موضع الحاجة منكلامه.
وأنت خبير بأنّ أوّل كلامه مغاير لآخره، فإنّه تمسّك في البداية بالإطلاقوفي النهاية بقاعدة الاشتغال، مع أنّ النزاع إنّما هو فيما إذا لم يكن إطلاق فيالبين كما أشرنا إليه في أوّل البحث(3)، وأمّا إذا كان لدليل المركّب أو لدليلجزئيّة الجزء إطلاق، فهو مسألة اُخرى سنبحث عنها إن شاء اللّه تعالى(4). فمفرضه المحقّق النائيني رحمهالله خارج عن محلّ النزاع.
ثمّ الجمع بين الدليلين لا يصحّ، لأنّ مجرى الاشتغال ما إذا لم يكن دليلاجتهادي في البين، فإنّ الاُصول لا تجري مع وجود الأمارات، وإن كانالأصل موافقاً لها، فالجمع في الاستدلال بين التمسّك بالإطلاق وبأصالةالاشتغال ليس ممّا ينبغي.
ومع الغضّ عن خروج ما ذكره عن محلّ النزاع، وعن عدم صحّة الجمعبين الدليلين يمكن المناقشة في فقرات من كلامه:
أ ـ قوله: إنّ أقصى ما تقتضيه أصالة البراءة عن الجزء المنسيّ هو رفعالجزئيّة في حال النسيان فقط.
فإنّ اختصاص أصالة البراءة بحال النسيان يستلزم كونها لغواً، لأنّالتكليف بإتيان المنسيّ حال النسيان لا يصحّ قطعاً، وإن لم تجر أصالة البراءة،لأنّ الناسي لا يقدر على إتيانه ما دام ناسياً كي يصحّ تكليفه به، فلا أثرلأصالة البراءة لو قلنا باختصاصها بهذا الحال.
ب ـ قوله في مورد الشكّ في جزئيّة المنسيّ في ظرف التذكّر: إنّ الشكّ فيهيرجع إلى سقوط التكليف بالجزء في حال الذكر، وهو مجرى الاشتغال.
وحاصله: أنّ على المكلّف ـ بعد زوال النسيان في أثناء الوقت ـ إتيانالمأمور به التامّ، لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.
فإنّه لا يلائم واحداً من المباني التي نقلناها آنفاً.
أمّا على مبنى الميرزا الشيرازي رحمهالله فلأنّه قال بعدم التكليف حال النسيانأصلاً، لا بالتامّ ولا بالناقص، فإذا زال النسيان شككنا في حدوث التكليفبالمركّب التامّ، والشكّ في حدوث التكليف مجرى البراءة، لا الاشتغال.
وأمّا على مبنى من نقل نظريّته المحقّق النائيني رحمهالله ـ وهو بعض تلامذةالشيخ ـ فلأنّه قال: إنّ الناسي مكلّف بالناقص الذي أتى به، ولكنّه أخطأ فيالتطبيق حيث يرى نفسه ذاكراً، فإذا زالت غفلته شكّ في أنّ تكليف الذاكرالذي لم يكن متوجّهاً إليه حتّى الآن هل حدث بالنسبة إليه أم لا؟ وهذا أيضمجرى البراءة.
وأمّا على ما اختاره المحقّق الخراساني ـ الذي حسّنه المحقّق النائيني رحمهالله فلأنّه قال: يمكن أن يوجّه الخطاب على نحو يعمّ الذاكر والناسي بالخالي عمّشكّ في دخله مطلقاً، وقد دلّ دليل آخر على دخله في حقّ الذاكر، فعلى مذهبه
(صفحه238)
أيضاً يكون الغافل مكلّفاً بالناقص ما دام غافلاً، وبعد رفع الغفلة يشكّ في أنّتكليف الذاكر هل يتوجّه إليه من الآن أم لا؟ وهذا أيضاً مجرى البراءة.
وبالجملة: إنّ المباني الثلاثة مشتركة في أنّ التكليف بالتامّ لم يكن متوجّهإلى الغافل قبل زوال غفلته، فأين الاشتغال اليقيني بالنسبة إليه كي يقتضيالفراغ اليقيني؟!
ج ـ ما ذكره رحمهالله من جريان الاستصحاب إذا كان في أوّل الوقت ذاكراً ثمّعرض عليه النسيان حين العمل ثمّ زال نسيانه قبل خروج الوقت.
فإنّ التكليف بالتامّ وإن كان متوجّهاً إليه في أوّل الوقت، إلاّ أنّه ارتفع فيظرف النسيان قطعاً، لعدم القدرة عليه حينئذٍ، فإذا زال نسيانه شكّ في عودهثانياً، فلا مجال للاستصحاب، لأنّ اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين شرط فيجريان الاستصحاب، وهو مفقود فيما نحن فيه، بل يجري استصحاب عدمالتكليف بالتامّ، فإنّه يعلم بعدم كونه مكلّفاً بالتامّ حال النسيان، ويشكّ فيهبعد زوال العذر، فيستصحب العدم.
فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ العقل يحكم بالبراءة وقبح العقاب بلا بيان، سواء كانالغفلة مستوعبة لجميع الوقت أو زالت في أثنائه.
مقتضى إطلاق الأدلّة في موارد نسيان الجزء
هذا إذا لم يكن لنا دليل اجتهادي دالّ على الجزئيّة مطلقاً أو علىاختصاصها بحال الذكر، وبعبارة اُخرى: إذا لم تقم حجّة على ركنيّة الجزءالمنسيّ أو على عدم ركنيّته.
وأمّا إذا كان لنا دليل اجتهادي مثل الإطلاق فلا مجال لجريان الاُصول،وحينئذٍ للمسألة صورتان: