نعم، الحديث الثالث ـ وهو رواية عبداللّه بن سنان ـ كان صحيحا سندوشاملاً لموارد العلم الإجمالي دلالةً بناءً على ما قوّيناه(2) من بين الاحتمالاتالمتصوّرة في مدلوله، من أنّ المراد بـ «الشيء» المأخوذ في المغيّى هو «مجموعالشيئين» الذين أحدهما حلال والآخر حرام، كالإنائين الذين نعلم أنّأحدهما ماء والآخر خمر، فكان معنى الرواية أنّ كليهما حلالان حتّى تعلمالحرام منهما بعينه.
لكنّه تجويز في المخالفة القطعيّة، وقد عرفت أنّه وإن كان ممكنا عقلاً، إلاّ أنّهممتنع عرفا، فلابدّ من حملها على الشبهات البدويّة كما تقدّم.
وأمّا رواية مسعدة بن صدقة فلا يرد عليها هذا الإشكال لو اُغمض عناغتشاشها المتني وإشكالها السندي، وذلك لأنّ لسانها هو «كلّ شيء هو لكحلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه»(3)؛ أي «كلّ شيء شكّ في حلّيّته وحرمته(4)هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه» وهو مضافا إلى الشبهات البدويّة يعمّكلّ واحد من أطراف العلم الإجمالي، لأنّ كلاًّ من أطرافه مشكوك الحلّيّةوالحرمة، فتعمّه هذه الرواية مستقلاًّ، ولا تعمّ مجموع الطرفين أو الأطراف معكي يرد عليها الإشكال الذي كان يرد على صحيحة عبداللّه بن سنان.
لكن ربما يستشكل عليه بأنّ الترخيص في جميع الأطراف ممتنع عرفا كمعرفت، وفي بعضها ـ كالترخيص في الإناء الواقع في اليمين مثلاً ـ ترجيح منغير مرجّح.
إن قلت: يمكن تجويز «أحدهما» لا على التعيين.
قلت: عنوان «أحدهما» أمرٌ اعتباري، وليس له حقيقة خارجيّة كي يتعلّقبه الحكم.
وبعبارة اُخرى: «الشيء المشكوك الحلّيّة والحرمة» الذي حكم في الحديثبحلّيّته، له في المقام فردان: الإناء الواقع في طرف اليمين، والإناء الواقع في طرفاليسار، وليس لنا شيء ثالث باسم «أحدهما» كي يدلّ الحديث على جوازارتكابه.
واُجيب عن هذا الإشكال بما يحتاج توضيحه إلى ذكر مقدّمة:
وهي أنّ العامّ أو المطلق قد لا يعمّ شيئا مباشرة إلاّ أنّه يعمّه بمعونة حكمالعقل.
توضيح ذلك: أنّا نستفيد من العامّ والمطلق أمرين: أ ـ جريان الحكم فيجميع الأفراد، ب ـ تحقّق ملاك الحكم فيها، فإذا قال المولى: «أكرم العلماء»يستفاد منه أنّ كلّ واحد من أفراد العالم يجب إكرامه وهو واجد لملاك وجوبالإكرام، وإذا قال: «أعتق رقبةً» يستفاد منه أنّ كلّ واحدٍ من أفراد الرقبةيجب عتقه وهو واجد لملاك وجوب العتق.
ثمّ إنّ التخصيص والتقييد تارةً يتعلّق بالمادّة واُخرى بالهيئة والحكم.
مثال الأوّل: ما إذا قال المولى: «أكرم كلّ عالم» وقال في دليل آخر:«لاتكرم الفسّاق من العلماء» فإنّ هذا الدليل المخصّص يضيّق دائرة المتعلّق،فكأنّه قال من بداية الأمر: «أكرم كلّ عالم غير فاسق».
ج5
فالحكم وملاكه في هذا القسم من التخصيصات والتقييدات يختصّ بما بقيتحت العامّ والمطلق، وأمّا ما خرج من تحتهما بواسطة التخصيص والتقييدفلايعمّه الحكم ولا ملاكه.
ومثال الثاني: ما إذا قال: «أنقذ الغريق» وكان زيد وعمرو مشرفين علىالغرق ولم يقدر المكلّف إلاّ على إنقاذ واحد منهما.
ففي هذا المثال لو عمّ قوله: «أنقذ الغريق» كليهما لكان تكليفا بما لا يطاق،ولو اختصّ بخصوص «زيد» أو خصوص «عمرو» لكان ترجيحا بلا مرجّح،فلابدّ من القول بعدم دلالته على وجوب إنقاذ واحد منهما مباشرةً، لكنّ كلمنهما مشتمل على ملاك الحكم، فيحكم العقل بملاحظة قوله: «أنقذ الغريق»بلزوم إنقاذ أحدهما مخيّرا.
وبالجملة: قوله: «أنقذ الغريق» وإن لم يدلّ على وجوب إنقاذ زيد أو عمرومباشرةً، إلاّ أنّه يدلّ على وجوب إنقاذ أحدهما بمعونة حكم العقل.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّه اُجيب عن الإشكال بأنّ ما نحن فيه يكون منقبيل قوله: «أنقذ الغريق» فإنّ كلاًّ من أطراف العلم الإجمالي مشتمل علىملاك الحكم بالحلّيّة في حديث مسعدة بن صدقة، فهو وإن لم يمكن أن يدلّمستقيما على حلّيّته لأجل المحذور المتقدّم، إلاّ أنّ العقل بملاحظته يحكم بحلّيّةبعض الأطراف مخيّرا.
نقد هذا الجواب من قبل المحقّق اليزدي رحمهالله
وناقش فيه المحقّق الحائري اليزدي رحمهماالله بأنّ هذا الحكم من العقل إنّما يكونفيما يقطع بأنّ الجري على طبق أحد الاقتضائين لا مانع فيه، كما في مثالالغريقين، وأمّا فيما نحن فيه فكما أنّ الشكّ يقتضي الترخيص كذلك العلم