ج5
قلت: إنّ الملاك في تخصيص الرواية ليس كون الشبهة محصورة، بل الملاكهو استلزام الإذن في الارتكاب الإذن في المعصية عند العقلاء.
ثمّ لا يخفى عليك أنّ نتيجة هذه الرواية لا تنحصر في عدم وجوب الموافقةالقطعيّة، بل تدلّ حتّى على عدم حرمة المخالفة القطعيّة.
إن قلت: كيف يمكن الجمع بينها وبين دليل حرمة شرب الخمر مثلاً الذييعمّ بإطلاقه الخمر المعلومة بالتفصيل وبالإجمال؟
قلت: قد عرفت(1) أنّ التناقض بينهما يتوقّف على كون الشارع مصرّاً علىرعاية الحكم الواقعي على أيّ حال، ومع ذلك أذِنَ في تركه، وأمّا إذا رفع اليدعن إطلاق دليل حرمة شرب الخمر عند اشتباهها في أطراف العلم الإجماليولم يلزم العبد على رعاية هذا الحرام الواقعي حينئذ لأجل مصلحة أقوى فلميكن الترخيص في ارتكاب جميع الأطراف مستلزماً للتناقض.
وأمّا الوجه الذي ذكره المحقّق الحائري رحمهالله فالعنوان المذكور فيه هو بلوغكثرة الأطراف إلى حدّ يوجب ضعف الاحتمال في كلّ منها جدّاً، بحيث لا يعتنيالعقلاء به.
وعليه أيضاً لا ينحصر الترخيص في عدم وجوب الموافقة القطعيّة، بليثبت به حتّى عدم حرمة المخالفة القطعيّة.
نعم، يجوز الاشتغال بالارتكاب باستناد الروايات ولو كان من أوّل الأمرقاصداً إلى ارتكاب الجميع، بل ولو كان قاصداً إلى ارتكاب الحرام الواقعي،لما عرفت من أنّ إطلاق دليل حرمة الخمر وإن كان يعمّ الخمر المعلومةبالإجمال، إلاّ أنّ الروايات تخرجها عن تحته لأجل مصلحة أقوى.
- (1) وهي العنوان المأخوذ في الإجماع، فليس بينه وبين الروايات فرق في هذه الجهة. م ح ـ ى.
(صفحه122)
ولكن لا يجوز الاشتغال بالارتكاب باستناد الوجه المذكور في كلام المحقّقالحائري فيما إذا كان من أوّل الأمر قاصداً إلى ارتكاب الحرام الواقعي،ضرورة أنّ الأمارة العقلائيّة التي هي المستمسك بها في هذا الوجه إنّما تدلّعلى جواز ارتكاب كلّ من الأطراف على أنّه لا يكون خمراً واقعاً، فلا يجوزالارتكاب بقصد ارتكاب الحرام الواقعي من البداية.
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في ضابط الشبهة غير المحصورة
والمحقّق النائيني رحمهالله ـ بعد المناقشة فيما قيل في ضبط المحصور وغيره ـ قال:والأولى أن يقال: إنّ ضابط الشبهة الغير المحصورة هو أن تبلغ أطراف الشبهةحدّاً لا يمكن عادةً جمعها في الاستعمال: من أكل أو شرب أو لبس أو نحو ذلك،وهذا يختلف حسب اختلاف المعلوم بالإجمال.
فتارةً: يعلم بنجاسة حبّة من الحنطة في ضمن حقّه منها، فهذا لا يكون منالشبهة الغير المحصورة، لإمكان استعمال الحقّة من الحنطة بطحن وخبز وأكل،مع أنّ نسبة الحبّة إلى الحقّة تزيد عن نسبة الواحد إلى الألف.
واُخرى: يعلم بنجاسة إناء من لبن البلد، فهذا يكون من الشبهة الغيرالمحصورة ولو كانت أواني البلد لا تبلغ الألف، لعدم التمكّن العادي من جمعالأواني في الاستعمال، وإن كان المكلّف متمكّناً من آحادها.
فليس العبرة بقلّة العدد وكثرته فقط، إذ ربّ عدد كثير تكون الشبهة فيهمحصورة، كالحقّة من الحنطة.
كما أنّه لا عبرة بعدم التمكّن العادي من جمع الأطراف في الاستعمالفقط، إذ ربما لا يتمكّن عادةً من ذلك مع كون الشبهة فيه أيضا محصورة، كملو كان بعض الأطراف في أقصى بلاد المغرب، بل لابدّ في الشبهة الغير
ج5
المحصورة من اجتماع كلا الأمرين: وهما كثرة العدد وعدم التمكّن من جمعه فيالاستعمال(1).
ثمّ بيّن حكم الشبهة غير المحصورة بقوله:
وممّا ذكرنا من الضابط يظهر حكم الشبهة الغير المحصورة، وهو عدم حرمةالمخالفة القطعيّة وعدم وجوب الموافقة القطعيّة.
أمّا عدم حرمة المخالفة القطعيّة: فلأنّ المفروض عدم التمكّن العادي منها.
وأمّا عدم وجوب الموافقة القطعيّة: فلأنّ وجوبها فرع حرمة المخالفةالقطعيّة، لأنّها هي الأصل في باب العلم الإجمالي، لأنّ وجوب الموافقة القطعيّةيتوقّف على تعارض الاُصول في الأطراف، وتعارضها فيها يتوقّف على حرمةالمخالفة القطعيّة ليلزم من جريانها في جميع الأطراف مخالفة عمليّة للتكليفالمعلوم في البين، فإذا لم تحرم المخالفة القطعيّة ـ كما هو المفروض ـ لم يقعالتعارض بين الاُصول، ومع عدم التعارض لا يجب الموافقة القطعيّة(2)، إنتهىموضع الحاجة من كلامه رحمهالله .
نقد نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله من قبل الإمام الخميني«مدّ ظلّه»
واستشكل عليه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» بقوله:
وفيه أمّا أوّلاً: أنّ المراد من عدم التمكّن من الجمع في الاستعمال إمّا أن يكونهو الجمع دفعة، فيلزم أن يكون أكثر الشبهات المحصورة غير محصورة، وإمّأن يكون أعمّ منها ومن التدريج ولو في مدّة طويلة من سنين متمادية، فلابدّمن تعيين ذلك الزمان الذي لا يمكن الجمع التدريجي بين الأطراف فيه، بل
- (1) فوائد الاُصول 4: 117.
- (2) فوائد الاُصول 4: 118.
(صفحه124)
يلزم أن يكون أكثر الشبهات محصورة، إذ قلّما يتّفق أن لا يمكن الجمع بينالأطراف ولو في سنين، فتكون الشبهة على هذا الضابط محصورة، وهذا ليمكن الالتزام به.
فإن قلت: إنّ ارتكاب جميع الأطراف ممّا لا يمكن غالباً ولو تدريجاً في سنينمتمادية، لفقدان بعض الأطراف، على أنّ تأثير العلم الإجمالي في التدريجيّاتمحلّ بحث.
قلت: إنّ خروج بعض الأطراف بعد تنجيز العلم غير موثّر، ولا يضرّبتنجيز العلم الإجمالي في بقيّة الأطراف، مع أنّك قد عرفت أنّ البحث ممحّضفي كون الشبهة غير محصورة مع قطع النظر عن الجهات الاُخر من فقدانبعض الأطراف، على أنّ تأثير العلم في التدريجي من حيث الاستعمال ممّا لإشكال فيه، وفي التدريجي من حيث الوجود أيضاً مؤثّر على الأقوى.
وأمّا ثانياً: أنّ مورد التكليف إنّما هو كلّ فرد فرد، والمفروض قدرته عليه،لا الجمع بين الأطراف حتّى يقال بعدم قدرته على الجمع، وما هو موردللتكليف فالمكلّف متمكّن من الإتيان به، لتمكّنه من كلّ واحد، والمكلّف بهغير خارج عن محلّ ابتلائه، وما لا يكون متمكّناً منه ـ أعني الجمع ـ فهو غيرمكلّف به.
وأمّا حكم العقل بالجمع أحياناً فهو لأجل التحفّظ على الواقع، لا أنّه حكمشرعي.
وبالجملة: إنّ الميزان في تنجيز العلم الإجمالي هو فعليّة التكليف وعدماستهجان الخطاب، والمفروض أنّ مورد التكليف يكون محلّ الابتلاء، لتمكنّهمن استعمال كلّ واحد، وإن لم يتمكّن من الجمع في استعمال.
وبذلك يظهر حرمة المخالفة الاحتماليّة بارتكاب بعض الأطراف، فضلاً عن
ج5
القطعيّة، لفعليّة الحكم، وعدم استهجان الخطاب، لكون مورد التكليف موردلابتلائه.
وبذلك يظهر النظر(1) فيما أفاده: من عدم حرمة المخالفة القطعيّة، وعدموجوب الموافقة القطعيّة، لأجل تفرّع الثانية على الاُولى(2).
إنتهى كلامه«مدّ ظلّه».
والحاصل: أنّ ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في ضبط المحصور وغيره مخدوشأيضاً.
حكم موارد الشكّ في كون الشبهة محصورة
إذا شككنا في شيء أنّه هل يكون من الشبهات المحصورة كي يجبالاحتياط، أو غيرها كي لا يجب، فماذا نفعل؟
ولا يخفى عليك أنّ الشبهة تارةً: تكون مفهوميّة، واُخرى: مصداقيّة.
وبيان ما هو الحقّ في المقام يتوقّف على ملاحظة الأدلّة التي تمسّكوا بهلإثبات عدم وجوب الاحتياط في الشبهات غير المحصورة، وقد عرفت أنّأهمّها هو الروايات وما ذكره المحقّق الحائري رحمهالله ، فإنّ الإجماع كان مخدوشا كمتقدّم(3).
أمّا الروايات التي عمدتها صحيحة عبداللّه بن سنان ـ وهي قوله عليهالسلام : «كلّشيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينهفتدعه»(4) ـ فتدلّ بعمومها على الحلّيّة في الشبهات المحصورة وغير المحصورة.
- (1) وجه النظر أنّ متعلّق التكليف ليس المخالفة القطعيّة، كي يُقال بعدم حرمتها لأجل عدم التمكّن منها، بلالمتعلّق هو الخمر مثلاً، والقدرة العاديّة على شربها حاصل، وإن كانت مردّدة بين ملايين طرف مثلاً. منهمدّ ظلّه.
- (2) تهذيب الاُصول 3: 249، وأنوار الهداية 2: 235.