ولو سلّم ما ذكره من التوجيه فلا يرد عليه ما أورده من الإشكالين،لإمكان الجواب عنهما.
أمّا الإشكال الأوّل: فلأنّه لا فرق بين الأوامر النفسيّة والغيريّة في اقتضائهالقدرة على متعلّقاتها، فإنّ الأمر وضع للبعث والتحريك، واستعمل في هذالمعنى، سواء كان نفسيّاً أو غيريّاً، مولويّاً أو إرشاديّاً، فالأمر وإن كان غيريّإرشاديّاً يقتضي القدرة على متعلّقه، ألا ترى أنّ الطبيب لو أمر المريضباستعمال دواء مع علمه بعدم قدرة المريض على استعماله كان قبيحاً عند العقلوالعقلاء، مع أنّ أمر الطبيب إرشادي بلا ريب؟
ومن هنا يظهر الجواب عن الإشكال الثاني، فإنّ آحاد الأوامر الغيريّة إذوضعت للبعث والتحريك واستعملت فيه فلابدّ من القدرة على متعلّقاتها، لأنّكلّ أمر يقتضي القدرة على متعلّقه.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّه يقع الكلام في مقامين:
أحدهما: في مقتضى الأصل العقلي والقاعدة الأوّليّة.
وثانيهما: في مقتضى القواعد الاُخر.
أمّا المقام الأوّل: فنقول فيه: إذا عجز المكلّف عن القيد فهل تجري البراءةالعقليّة مطلقاً، أو لا تجري مطلقاً، أو تجري في بعض الصور دون بعض آخر؟فيه وجوه.
ولا إشكال في جريانها إذا كان عاجزاً قبل البلوغ، كما إذا كان أخرس، لميقدر على قراءة الفاتحة قبل البلوغ، وكان الفاتحة بعنوان القراءة جزءً للصلاة،لأنّه يشكّ في توجّه التكليف بالصلاة إليه، وهذه شبهة بدويّة حكميّة، نظيرالشكّ في حرمة شرب التتن.
وكذا لا إشكال في جريانها إذا كان عجزه مستوعباً لجميع الوقت، كما إذصار عاجزاً عن قراءة الفاتحة أوّل الزوال واستدام إلى آخر النهار، ولا يضرّبجريان البراءة أنّه كان قادراً أمس وسيصير قادراً غداً، لأنّ لكلّ يوم تكليفمستقلاًّ لا يرتبط بعضها بالبعض.
إنّما الإشكال فيما إذا صار عاجزاً في أثناء الوقت، والظاهر جريان البراءة فيهذه الصورة أيضاً وإن كان أخفى بالنسبة إلى الصورتين الاُوليين.
وذلك لأنّه إذا عرض عليه العجز شكّ في توجّه التكليف بالصلاة الفاقدةللقيد المتعذّر فيه، وهو مجرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
إن قلت: لا يجري البراءة إلاّ في موارد الشكّ في التكليف، والتكليف هاهنصار مشكوكاً بعد أن كان معلوماً، فلا يكون مجرى البراءة.
قلت: التكليف المعلوم مغاير للمشكوك، لأنّ المعلوم هو التكليف بالصلاةالمشتملة على عشرة أجزاء مثلاً، وهو لم يصر مشكوكاً، بل معلوم بعد العجز
(صفحه292)
أيضاً، والشاهد على هذا أنّا لو سألنا العاجز عن تكليفه على فرض قدرتهلأجاب بأنّي حينئذٍ كنت مكلّفاً بالصلاة المشتملة على عشرة أجزاء،والمشكوك هو التكليف بالصلاة المشتملة على تسعة أجزاء، وهو لم يكنمعلوماً، بل مشكوك حين القدرة أيضاً، والشاهد على هذا أنّا لو سألنا القادرعن تكليفه على فرض عجزه لأجاب بأنّي أشكّ في أنّي مكلّف حينئذٍ بالصلاةالفاقدة للجزء المتعذّر فيه أم لا؟
فالتكليفان متغايران، والعلم بذاك التكليف لا يقدح في جريان البراءة فيهذا التكليف المشكوك.
لا يقال: لا فرق بين ما نحن فيه وبين الشكّ في القدرة، لاشتراكهما في الشكّفي ثبوت التكليف، مع أنّ الأكابر يقولون بالاحتياط عقلاً في الشكّ في القدرة،بأن ينبعث نحو العمل، فإن تبيّن أنّه قادر أتمّه، وإن تبيّن أنّه عاجز تركه منحين ظهور العجز، فيجب الاحتياط في المقام أيضاً.
فإنّه يقال: ليس الشكّ في القدرة شكّاً في ثبوت التكليف، بل في سقوطه،لأنّ القدرة ـ على ما هو التحقيق عندنا ـ لا تكون شرطاً للتكليف كي يستلزمالشكّ فيها الشكّ فيه لأجل استلزام الشكّ في الشرط الشكّ في المشروط، بلالتكليف يعمّ القادر والعاجز، ولكنّ عدم القدرة عذر عقلي لمخالفته، فالشاكّ فيالقدرة يعلم بتوجّه التكليف إليه، ويشكّ في ثبوت العذر على المخالفة، فيجبعليه الاحتياط.
بخلاف المقام، فإنّ العاجز عن القيد يشكّ في أصل توجّه التكليف بسائرالأجزاء والشرائط إليه، فقياسه بالشكّ في القدرة مع الفارق.
نعم، لو قلنا بكون القدرة شرطاً للتكليف ـ كما عليه المشهور ـ لكانالقياس في محلّه، لكنّا لا نقول به، وقولهم بلزوم الاحتياط دليل على صحّة م