(صفحه12)
في جريان البراءة العقليّة في المسألة
ثمّ الحقّ أنّه لا منع من جريان «قبح العقاب بلابيان» في المقام، لأنّ العلمالإجمالي بوجوب الفعل أو حرمته يكون بيانا بالنسبة إلى الجنس الذي هوالتكلف الإلزامي، وأمّا النوع، وهو الوجوب والحرمة فليس معلوما كي يتمّالبيان بالنسبة إليه ويمنع من إجراء البراءة العقليّة.
نعم، فيما إذا كان نوع التكليف معلوما وكان الترديد في المكلّف به ـ كما إذشككنا في أنّ الواجب هل هو صلاة الظهر أو الجمعة؟ ـ كان العلم الإجماليمنجّزا على كلا التقديرين ووجب على المكلّف الاحتياط بإتيان كلا الفعلين.
بخلاف المقام الذي يكون جنس التكليف فيه معلوما ونوعه مجهولاً، فليسالعلم الإجمالي منجّزا للوجوب على تقدير وجوب العمل ولا للحرمة علىتقدير حرمته، فيحكم العقل بـ «قبح العقاب بلا بيان» بالنسبة إلى كلّ منهما.
ولو كان العلم الإجمالي هاهنا بيانا مانعا من جريان البراءة لما سلم للبراءةمورد أصلاً، ضرورة أنّا إذا شككنا في أنّ الدعاء عند رؤية الهلال واجب أومندوب، أو شككنا في أنّ شرب التتن حرام أو مباح، كان جنس الحكممعلوما ونوعه مجهولاً، فهل يمكن الالتزام بأنّ العلم الإجمالي هاهنا منجّز علىكلّ حال؟!
فهذا كاشف عن عدم كون العلم الإجمالي بيانا رافعا لموضوع البراءة
ج5
العقليّة فيما إذا كان نوع التكليف مجهولاً مردّدا، كما في موارد الدوران بينالمحذورين.
إن قلت: نعم، ولكنّه بيان بالنسبة إلى جنس التكليف.
قلت: نعم، ولكن لا أثر لهذا البيان، لأنّ المعلوم هو الإلزام، ولا يتمكّنالمكلّف من امتثاله، لأنّه مردّد بين لزوم الفعل ولزوم الترك ولا يتمكّنالمكلّف من أن يكون فاعلاً وتاركا معا، فلا يمكن أن يتنجّز هذا الإلزامالمعلوم المبيّن.
والعجب من الأعلام الثلاثة: ـ المحقّق الخراساني والنائيني والعراقي رحمهمالله حيث أنكروا جريان البراءة العقليّة في المقام.
كلام صاحب الكفاية في المسألة ونقده
فقال المحقّق الخراساني رحمهالله : ولامجال هاهنا لقاعدة «قبح العقاب بلبيان» فإنّه لا قصور فيه(1) هاهنا، وإنّما يكون عدم تنجّز التكليف لعدمالتمكّن من الموافقة القطعيّة كمخالفتها، والموافقة الاحتماليّة حاصلة لا محالةكما لا يخفى(2).
وانقدح جوابه ممّا تقدّم، فإنّ العلم الإجمالي في المقام بيان بالنسبة إلىأصلالتكليف الإلزامي، لا بالنسبة إلى خصوص الوجوب والحرمة، ولو كان مثلهبيانا رافعا لموضوع البراءة العقليّة لما بقي لها مورد أصلاً كما عرفت.
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
- (1) أي في البيان. م ح ـ ى.
(صفحه14)
وذهب المحقّق النائيني رحمهالله إلى أنّ هاهنا جهة توجب المنع من جريان البراءةالعقليّة والنقليّة، وهي أنّه لا موضوع لها.
أمّا البراءة العقليّة: فلأنّ مدركها «قبح العقاب بلابيان» وفي باب دورانالأمر بين المحذورين يقطع بعدم العقاب، لأنّ وجود العلم الإجمالي كعدمه، ليقتضي التنجيز والتأثير ـ بالبيان المتقدّم(1) ـ فالقطع بالمؤمّن حاصل بنفسه بلحاجة إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان(2)، إنتهى موضع الحاجة منكلامه رحمهالله .
كلام المحقّق العراقي رحمهالله في المقام
وللمحقّق العراقي رحمهالله كلام نظير ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله ، فإنّه قال:
لا مجال لجريان أدلّة البراءة وأصالة الحلّيّة والإباحة في المقام لإثباتالترخيص في الفعل والترك، لاختصاص جريانها بما إذا لم يكن هناكما يقتضي الترخيص في الفعل والترك بمناط آخر من اضطرار ونحوه غيرمناط عدم البيان، فمع فرض حصول الترخيص بحكم العقل بمناط الاضطراروالتكوين لا ينتهي الأمر إلى الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان.
- (1) وهو قوله: يعتبر في تأثير العلم الإجمالي أن يكون المعلوم بالإجمال صالحا لتشريعه كذلك، أي على مهو عليه من الإجمال.
فإن كان المعلوم بالإجمال غير صالح لتشريعه كذلك وكان قاصرا عن أن يكون داعيا ومحرِّكا لإرادةالعبد، فالعلم الإجمالي المتعلّق به لا يقتضي التأثير والتنجيز وكان وجوده كعدمه، كما في موارد دورانالأمر بين المحذورين، فإنّ التكليف المردّد بين وجوب الشيء أو حرمته قاصر عن أن يكون داعيومحرّكا نحو فعل الشيء أو تركه، لأنّ الشخص بحسب خلقته التكوينيّة لا يخلو عن الفعل أو الترك، فليصحّ تشريع التكليف على هذا الوجه؛ لأنّ تشريع التكليف على هذا الوجه لا أثر له ولا يزيد على ميكون المكلّف عليه تكوينا، فإنّه إمّا أن يفعل وإمّا أن لايفعل، فهو غير قابل لتحريك عضلات العبد وغيرصالح للداعويّة والباعثيّة، فإذا كان متعلّق العلم الإجمالي وجوب الفعل أو حرمته فالعلم لا يقتضي تنجيزمتعلّقه وكان وجوده كعدمه. فوائد الاُصول 3: 443. م ح ـ ى.
- (2) فوائد الاُصول 3: 448.
ج5
ولئن شئت قلت: إنّ الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان إنّما هو في ظرفسقوط العلم الإجمالي عن التأثير، والمسقط له حيثما كان هو حكم العقل بمناطالاضطرار فلايبقى مجال لجريان أدلّة البراءة العقليّة والشرعيّة، نظرا إلىحصول الترخيص حينئذٍ في الرتبة السابقة عن جريانها بحكم العقل بالتخييربين الفعل والترك(1)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه رحمهالله .
وحاصل كلام هذين العلمين: أنّا لانحتاج إلى قاعدة «قبح العقاب بلابيان»في موارد الدوران بين المحذورين، لحصول القطع بالمؤمّن بنفسه، على تعبيرالمحقّق النائيني، ولحصول الترخيص والتخيير في الرتبة السابقة، على تعبيرالمحقّق العراقي رحمهالله .
نقد كلام المحقّقين: النائيني والعراقي رحمهماالله
ويرد عليهما أنّا لا نسلّم حصول المؤمّن بدون البراءة العقليّة، أو كونالتخيير في الرتبة السابقة عليها، بل الأمر بالعكس، فإنّ حكم العقل بالتخييريتوقّف في المقام على حكمه بقبح العقاب على مخالفة الوجوب بخصوصه وعلىمخالفة الحرمة بخصوصها ليحصل المؤمّن من ناحيتهما، وأمّا جنس التكليفـ وهو الإلزام الكلّي ـ فهو وإن كان بيانا مانعا عن جريان البراءة فيه، إلاّ أنّالمكلّف لايتمكّن من موافقته القطعيّة، وأمّا الموافقة الاحتماليّة فهي حاصلةقهرا، لكون المكلّف لا محالة إمّا أن يكون فاعلاً أو تاركا، فيحكم العقل بكونهمخيّرا بين الفعل والترك.
والحاصل: أنّ المؤمّن من العقاب بالنسبة إلى نوع التكليف يتوقّف علىقاعدة «قبح العقاب بلا بيان» ثمّ يحكم العقل بالتخيير بالنسبة إلى جنسه الذي
- (1) نهاية الأفكار 3: 293.
(صفحه16)
لا يتمكّن المكلّف من موافقته القطعيّة.
إن قلت: حكم العقل بالتخيير لا يتوقّف في موارد الدوران بين المحذورينعلى البراءة العقليّة؛ إذ لا طريق للعقل إلاّ الحكم بالتخيير عملاً حتّى فيما إذفرض أنّ المولى يعاقب العبد على مخالفة الوجوب الواقعي أو الحرمة الواقعيّة،فلا فرق في جريان التخيير العقلي بين جريان البراءة العقليّة وعدمه.
قلت: ليس الغرض من أصالة التخيير حكم العقل بتخيّر العبد بين الفعلوالترك ثمّ تهيّأه لتحمّل عقوبة المولى على فرض المخالفة، بل العقل يحكمبتخيّره بينهما مع الاطمئنان بعدم كونه معاقباً على مخالفة الحكم الواقعي، وهذلايحصل إلاّ بعد حكمه بقبح العقاب على مخالفة التكليف المجهول.
وبالجملة: لا يمكن الالتزام بما اختاره الأعلام الثلاثة قدسسرهم (1) من عدم جريانالبراءة العقليّة في موارد الدوران بين المحذورين.
- (1) وهم: المحقّق الخراساني والنائيني والعراقي رحمهمالله .