ج5
يحتمل في كلمة «الشيء» المأخوذ في المغيّى ثلاثة وجوه:
أ ـ أن يكون بمعنى الطبيعة والجنس، أي كلّما كان من الطبيعة ذات قسمين:حلال وحرام ـ مثل طبيعة «المايع»(1) التي لها قسم حلال، وهو الماء وقسمحرام وهو الخمر ـ فلو شككت في فرد من أفراد هذه الطبيعة أنّه من أيّ قسممنهما فهو لك حلال حتّى تعلم أنّه من القسم الحرام.
ب ـ أن يكون بمعنى «مجموع الشيئين» الذين أحدهما حلال والآخر حرام،كالإنائين الذين نعلم أنّ أحدهما الماء والآخر الخمر، فكان معنى هذهالروايات أنّ كليهما حلالان حتّى تعلم الحرام منهما بعينه.
ج ـ أن يكون له معنى عامّ لهما، فيعمّ «الجنس» و«مجموع الشيئين».
ولا يخفى عليك أنّ هذه الأحاديث تختصّ بالشبهات البدويّة على الاحتمالالأوّل، وبالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي على الاحتمال الثاني، ويعمّ كليهمعلى الاحتمال الثالث.
هذا من حيث «المغيّى».
وأمّا «الغاية» فهل المراد من «المعرفة» فيها خصوص العلم التفصيليأو الأعمّ منه ومن الإجمالي؟
فإن اخترنا الاحتمال الأوّل من الاحتمالات المتقدِّمة في المغيّى كان المراد من«المعرفة» أعمّ من العلم التفصيلي والإجمالي، فلم تكن هذه الروايات دالّة علىالترخيص في المقام.
وإن اخترنا أحد الاحتمالين الأخيرين كان العلم الإجمالي داخلاً في المغيّى،واختصّت الغاية بالعلم التفصيلي، فكانت هذه الأخبار دالّة على الإذن في
- (1) ومثل طبيعة «الجبن» التي منها قسم حلال، كالجبن المصنوع من أنفحة المذكّى، وقسم حرام، كالمصنوعمن أنفحة الميتة على رأي العامّة. منه مدّ ظلّه.
(صفحه46)
المخالفة في ما نحن فيه.
هذا بحسب الوجوه المتصوّرة في المقام.
ويمكن أن تميل النفس في بادئ النظر إلى الاحتمال الأوّل من الاحتمالاتالثلاثة في المغيّى.
ولكنّ التأمّل يقضي بأنّ المراد بـ «الحلال» و«الحرام» ما كان موجودبالفعل منهما في نفس الواقعة المبتلى بها، وهو ينطبق على الاحتمال الثاني، لعدموجود الحلال والحرام بالفعل في الاحتمال الأوّل، بل مورد الابتلاء فيه هوشيء مشكوك الحلّيّة والحرمة.
وحاصل ما وصلنا إليه إلى هنا: أنّه يمكن الاستدلال على وقوع الترخيصبصحيحة عبداللّه بن سنان من الأخبار الثلاثة المتقدّمة.
4ـ وممّا استدلّ به على أصالة الحلّيّة: ما روي عن مسعدة بن صدقة، عنأبي عبداللّه عليهالسلام قال: سمعته يقول: «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرامبعينه، فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهوسرقة، والمملوك عندك لعلّه حرٌّ قد باع نفسه(1)، أو خُدع فبيع قهرا، أو امرأةتحتك وهي اُختك، أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غيرذلك، أو تقوم به البيّنة»(2).
ولا ينبغي الإشكال في دلالة صدر هذه الرواية على المقام، لأنّ غاية الحلّيّةفيها هو العلم بالحرمة، فكما تعمّ الشبهات البدويّة تعمّ أيضاً الشبهات المقرونةبالعلم الإجمالي، لأنّ كلاًّ من أطراف الشبهة يصدق عليه أنّه غير معلوم لنا.
لكنّ الأمثلة التي ذكرت بعنوان مصاديق «أصالة الحلّيّة» لا ترتبط به
- (1) المراد ببيع نفسه هو المصانعة والتباني مع شخص آخر ليبيعه وهو يقرّ كونه عبدا له. منه مدّ ظلّه.
- (2) وسائل الشيعة 17: 89 ، كتاب التجارة، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
ج5
أصلاً، بل كلّها من مصاديق الأمارات أو الاُصول الاُخرى المتقدّمة علىأصالة الحلّيّة.
أمّا حلّيّة الثوب المحتمل سرقته في المثال الأوّل، والمملوك المحتمل كونه ممّنخُدع فبيع قهرا في المثال الثالث فمستندة إلى كون اليد أمارة للملكيّة.
وأمّا المملوك المحتمل كونه حرّا قد باع نفسه في المثال الثاني، فهو منمصاديق «الإقرار» و«إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»(1).
إن قلت: لا ينفذ إقرار العبد، فهو خارج عن تحت مسألة الإقرار وداخلتحت «أصالة الحلّيّة».
قلت: إقرار العبد غير نافذ فيما إذا كان على المولى، وأمّا إذا كان على نفسهفهو نافذ، فحلّيّة التصرّف في الإنسان المقرّ على عبوديّته مستندة إلىالإقرار لإلى أصالة الحلّيّة.
وأمّا حلّيّة الزوجة التي يحتمل الزوج كونها اُخته الرضاعيّة كما في المثالالخامس، فهي مستندة إلى الاستصحاب؛ لأنّ الرضاع أمرٌ حادث بعد الولادة،فإذا شكّ فيه يستصحب عدمه.
وأمّا المثال الرابع ـ وهو احتمال كون الزوجة اُخت الزوج نسبا ـ فهو أيضمن مصاديق الاستصحاب بناءً على جريان مثل استصحاب عدم قرشيّةالمرأة، كما عليه بعض العلماء ومنهم المحقّق الخراساني رحمهالله (2).
نعم، بناءً على عدم جريان هذا النوع من الاستصحابات(3) كان حلّيّة مناحتمل كونها اُخت الزوج نسبا مستندة إلى أصالة الحلّيّة.
هذا ما اقتضته الرواية.
- (1) وسائل الشيعة 23: 184، كتاب الإقرار، الباب 3 من أبواب الإقرار، الحديث 2.
- (3) كما عليه الاُستاذ«مدّ ظلّه». راجع ص498 ـ 507 من الجزء الرابع. م ح ـ ى.
(صفحه48)
وأمّا مع قطع النظر عنها فالقاعدة تقتضي حرمة تزويج مرأة شكّ في كونهاُختا للنسب، إذ لا يجوز إلاّ نكاح الأجنبيّة، فلابدّ من إحراز كون المرأةأجنبيّة كي يترتّب عليه جواز التزويج.
والحاصل: أنّ الأمثلة المذكورة في ذيل الرواية لا ترتبط بالقاعدة الكلّيّةالمستفادة من صدرها، لعدم كون الحلّيّة فيها مستدة إلى تلك القاعدة، بل إلىمثل «الإقرار» و«الاستصحاب» و«قاعدة اليد» وهذه الاُمور متقدّمة علىأصالة الحلّيّة، فمع جريانها لا تصل النوبة إليها، فذكر هذه الأمثلة بعنوانمصاديق أصالة الحلّيّة يوجب وهن الاستناد بالرواية لإثبات الترخيص في منحن فيه.
نعم، بقي من بين الأحاديث الأربعة المتقدّمة حديث واحد سليم من حيثالسند، وتامّ من حيث الدلالة على الترخيص في المقام، وهو صحيحة عبداللّهبن سنان، كما تقدّم.
وقد عرفت أنّه لامحذور في تجويز مخالفة الحكم الواقعي من حيث العقلأيضاً، لعدم كونه ترخيصا في المعصية ولا مستلزما للتناقض.
هذا، ولكن المهمّ هو نظر العرف في معنى الروايات لا نظر العقل.
والعرف يقضي بأنّ ارتكاب كلا الإنائين الذين علم إجمالاً بخمريّة أحدهما،معصية، فتجويزه ترخيص في المعصية ومستلزم للتناقض، فالعرف بلحاظهذين المحذورين يحكم باختصاص صحيحة عبداللّه بن سنان بالشبهاتالبدويّة وأنّها لا ترتبط بموارد العلم الإجمالي أصلاً.
أضف إلى ذلك أنّا وإن استظهرنا الاحتمال الثاني من بين الاحتمالات الثلاثةالمتصوّرة في «المغيّى» وهو أن يكون المراد من «الشيء» مجموع الشيئين، إلأنّه يمكن أن يُقال برجحان الاحتمال الأوّل، لأنّ إرادة مجموع شيئين من كلمة
ج5
«شيء» بعيدة، وأمّا إرادة «الطبيعة» منه فلا بُعد فيه أصلاً، فالاحتمال الأوّلراجح، وإن أبيت عن رجحانه فلايمكن إنكار تساويه مع الاحتمالينالأخيرين.
فلايصحّ الاستدلال بهذه الرواية على الترخيص في أطراف العلم الإجمالي،لظهورها في الشبهات البدويّة بناءً على رجحان الاحتمال الأوّل، ولكونهمجملة بناءً على تساويه مع الاحتمالين الأخيرين.
على أنّه نسب إلى صاحب الجواهر أنّه قال: العمل بهذه الرواية نادر بينالأصحاب. فهي وإن كانت صحيحة إلاّ أنّه يشكل الاستدلال بها بعد ندرةالعمل بها من قبل الفقهاء.
والحاصل: أنّه لا يمكن إثبات الترخيص في مخالفة العلم الإجمالي بأحاديثأصالة الحلّيّة.
البحث حول دلالة «أصالة البراءة» على الترخيص في المقام
وبهذا ينقدح عدم صحة الاستدلال في ما نحن فيه بالبراءة الشرعيّة مثل«رفع ما لا يعلمون»(1) و«الناس في سعة ما لم يعلموا»(2)؛ لشهادة العرفباختصاص هذه الروايات بالشبهات البدويّة، لأنّ العلم الإجمالي وإن كان لهإضافة إلى العلم وإضافة اُخرى إلى الجهل، إلاّ أنّ العرف لا ينظر إلاّ إلىإضافته العلميّة، فيقضي بأنّه علم.
فلا يصلح «رفع ما لا يعلمون» و«الناس في سعة ما لم يعلموا» وأمثالهملإثبات الترخيص في موارد العلم الإجمالي.
- (1) وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، الباب 56 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، الحديث 1.
- (2) مستدرك الوسائل 18: 20، كتاب الحدود والتعزيرات، الباب 12 من أبواب مقدّمات الحدود،الحديث 4.