ج5
في قاعدة الميسور
البحث الثالث: في قاعدة «الميسور»
هل يمكن إثبات وجوب سائر الأجزاء ببركة قاعدة «الميسور» أم لا؟
أقول: لا.
وذلك لأنّ دليل «القاعدة» هو النبويّ المشهور: «إذا أمرتكم بشيء فأتومنه ما استطعتم»(1) والعلويّان المشهوران: «الميسور لا يسقط بالمعسور»(2)و«ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»(3).
وجميعها مرسلة لا يجوز التمسّك بها.
إن قلت: نعم، ولكن ينجبر ضعف سندها بالشهرة الفتوائيّة على طبقها.
قلت: لا يجبر ضعف السند إلاّ بالشهرة عند القدماء، واشتهار الفتوى علىطبق هذه الروايات إنّما حدث بين المتأخّرين.
وعلى فرض صحّتها فهل تدلّ على وجوب باقي الأجزاء في المقامأم لا؟
لابدّ من إفراد كلّ من النبويّة والعلويّتين ببحث مستقلّ:
البحث حول قوله صلىاللهعليهوآله : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»
- (1) عوالي اللئالي 4: 58، الحديث 206، باختلاف يسير.
- (2) عوالي اللئالي 4: 58، الحديث 205، وفيه: «لا يترك الميسور بالمعسور». م ح ـ ى.
- (3) عوالي اللئالي 4: 58، الحديث 207.
(صفحه306)
أمّا الحديث النبويّ: فلابدّ قبل البحث فيه من ملاحظة أنّه هل يرتبطبخطبة النبيّ صلىاللهعليهوآله حول مسألة الحجّ أم لا؟
قال المحقّق الخراساني رحمهالله في الكفاية: ورد جواباً عن السؤال عن تكرارالحجّ بعد أمره به، فقد روي أنّه خطب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فقال: «إنّ اللّه كتبعليكم الحجّ، فقام عكاشة، ويروى سراقة بن مالك، فقال: في كلّ عاميارسول اللّه؟ فأعرض عنه، حتّى أعاد مرّتين أو ثلاثاً، فقال: ويحك، وميؤمنك أن أقول: نعم، واللّه لو قلت: نعم، لوجب، ولو وجب ما استطعتم، ولوتركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتم، وإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهمواختلافهم إلى أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكمعن شيء فاجتنبوه»(1)، إنتهى كلامه رحمهالله .
ولكن ذكرت القصّة والرواية كلتاهما في كتاب «عوالي اللئالي» من دونربط بينهما(2)، فلا يعلم ورودها جواباً عن السؤال عن تكرار الحجّ.
وعلى أيّ حال فلابدّ من ملاحظة دلالتها تارةً: على فرض ورودهمستقلّة، واُخرى: على فرض صدورها عقيب القصّة.
فأقول: لو لم ترتبط بالقصّة ففيها وجوه نذكرها ونبيّن ما هو الظاهر منها.
توضيح ذلك: أنّ كلمة «شيء» في قوله صلىاللهعليهوآله : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ماستطعتم» هل هي بمعنى «شيء له أفراد» أو بمعنى «شيء له أجزاء» أو تعمّكليهما؟
الظاهر هو العموم مع قطع النظر عن سائر ألفاظ الرواية، لأنّ كلاًّ ممّا له
- (2) لكن ارتبطت الرواية بالقصّة في مجمع البيان 3: 250 عند ذكر سبب نزول قوله تعالى ـ في سورة المائدة،الآية 101 ـ : «يَـآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَسْـءَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ»، وفي بحار الأنوار22: 31. م ح ـ ى.
ج5
أفراد وممّا له أجزاء يصدق عليه لفظ «شيء» فلا مانع من شموله لهما من جهةمدلوله اللغوي.
وأيضاً كلمة «من» في قوله صلىاللهعليهوآله : «فأتوا منه» هل هي للتبعيض أو للتبيين أوبمعنى الباء؟
الظاهر أنّها للتبعيض، لأنّ كونها بمعنى الباء يستلزم أن تكون زائدة(1)، ولمعنى لكونها بمعنى التبيين أيضاً، لأنّ البيان لا يؤتى به إلاّ لإيضاح أمر مجهول،وليس في الحديث أمر مجهول.
وأيضاً كلمة «ما» في قوله صلىاللهعليهوآله : «ما استطعتم» هل هي موصولة أو مصدريّةزمانيّة؟
الظاهر أنّها موصولة، لأنّه الأصل في معناها والمتعارف من موارد استعمالها،على أنّ كونها مصدريّة توقيتيّة لا يناسب التبعيض المستفاد من كلمة «من» إذلا يناسب أن يأمرنا بإتيان بعض أفراد المأمور به أو أجزائه في زمناستطاعتنا وقدرتنا، بل المناسب هو الأمر بإتيان بعض أفراده أو أجزائه بقدرالاستطاعة، وهو مقتضى كون «ما» موصولة.
إشكال وجواب
ثمّ إنّه أورد سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» شبهة وأجاب عنها:
أمّا الشبهة: فهي أنّ إرادة العموم من كلمة «شيء» لا تلائم إرادة التبعيضمن كلمة «من» لأنّها ظاهرة في كون مدخولها مركّباً ذا أجزاء وأبعاض، لا ذأفراد ومصاديق، إذ يصدق على الجزء أنّه بعض المركّب، ولا يصدق على الفرد
- (1) ولا معنى لكونها بمعنى الباء مع زيادتها أوّلاً، ويشترط في زيادتها تقدّم نفي أو نهي أو استفهام ودخولهعلى النكرة ثانياً. م ح ـ ى.
(صفحه308)
أنّه بعض الطبيعي، فإنّه نفسه لا بعضه، فيكون معنى الرواية «إذا أمرتكمبشيء مركّب فأتوا من أجزائه المقدار الذي استطعتم».
وأمّا الجواب: فهو أنّ كون كلمة «من» تبعيضيّة ليس بمعنى كونها مرادفةللفظ «بعض» كي يقال: لا يصدق على الفرد أنّه بعض الطبيعي، فإنّه باطلبالضرورة، بل هي مستعملة في معناها الحرفي الذي يعبّر عنه بالفارسيّة بكلمة«از» فلفظة «من» ليست مرادفة لـ «البعض» بل يكون معناها أنّ ما بعدهمقتطع ممّا قبلها بنحو من الاقتطاع، أو يكون ما قبلها مخزناً لما بعدها كالطبيعةبالنسبة إلى الأفراد عرفاً، وهو حاصل في المقام، ألا ترى أنّه لو قال القائل:«إذا أمرتكم بطبيعة الصلاة فأتوا منها كلّ فرد يكون في استطاعتكم» لكانقولاً صحيحاً عند العرف من دون استلزامه تجوّزاً.
فكون «من» تبعيضيّة ليس مانعاً من حمل الرواية على الأعمّ(1).
هذا حاصل كلام الإمام«مدّ ظلّه» إشكالاً وجواباً.
وما أفاده في مقام الجواب عن هذه الشبهة صحيح متين.
لكن هاهنا إشكال آخر، وهو أنّ الرواية لو كانت أعمّ من الكلّ والكلّيلكان معناها بحسب الكلّي: «إذا أمرتكم بطبيعة كلّيّة فأتوا من مصاديقهالمقدار الذي استطعتم» مع أنّه ليس في الشرع طبيعة وجب علينا إتيانأفرادها بمقدار استطاعتنا.
فكلمة «شيء» وإن كانت ظاهرة في العموم مع قطع النظر عن سائر ألفاظالرواية، إلاّ أنّها بملاحظة كون «من» تبعيضيّة و«ما» موصولة تختصّ بالمأموربه المركّب فقط، ولا تعمّ الطبيعة الكلّيّة، لئلاّ يرد هذا الإشكال.
وعلى هذا تكون الرواية دالّةً على ما اشتهر بين المتأخّرين، من لزوم
- (1) أنوار الهداية 2: 386، وتهذيب الاُصول 3: 404.
ج5
الإتيان بسائر أجزاء المركّب إذا تعذّر بعضها، لأنّ معناها أنّه «إذا أمرتكمبشيء له أجزاء فأتوا من تلك الأجزاء مقدار استطاعتكم».
لكن لا يجوز التمسّك بها لضعف سندها كما قلنا في أوّل البحث.
هذا كلّه على فرض صدورها مستقلّة.
وأمّا على فرض صدورها عقيب سؤال عكاشة أو سراقة بن مالك،فالظاهر أنّ المراد من «شيء» هو الطبيعة ذات الأفراد، لورودها جواباً عنسؤال تكرار أفراد طبيعة الحجّ كلّ عام، لكن لابدّ من ذكر أمرين لأن نفهممعنى الرواية كما هو عليه.
أ ـ أنّ الطبيعة الكلّيّة إذا كانت مأموراً بها يكفي إتيان فرد واحد منها عقلفي مقام الامتثال، لأنّها تتحقّق بتحقّق فرد منها في نظر العقل.
ب ـ أنّ الظاهر من قوله صلىاللهعليهوآله : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»بقرينة السياق هو الإرشاد إلى حكم العقل الذي ذكرناه، وهو كفاية فرد واحدمن الطبيعة المأمور بها.
وأمّا إرادة لزوم تكرار أفراد الطبيعة بمقدار القدرة فخلاف السياق، لأنّالنبيّ صلىاللهعليهوآله غضب على السائل، لأنّه عدل عن قضاوة العقل بكفاية الحجّ سنةواحدة إلى السؤال، بقوله: «ويحك، وما يؤمنك أن أقول: نعم، واللّه لو قلت:نعم، لوجب، ولو وجب ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتم،وإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم».
فكأنّه صلىاللهعليهوآله قال: لِمَ سألت هذا السؤال مع قضاوة عقلك بكفاية إتيان فردواحد من الحجّ؟! فإنّك مكلّف بما حكم به العقل ما لم يأتك بيان مخالف منّا، لأنّه صلىاللهعليهوآله أراد تحميل تكليف زائد على مقتضى حكم العقل في مورد السؤالـ وهو الحجّ ـ وفي غير مورده.