ج5
معنوناً بعنوان النفسيّة والتهيّئيّة.
وأمّا عدم الدليل النقلي: فلأنّ الآيات والروايات المتناسبة للمقام علىطائفتين لا دلالة فيهما على كون الفحص واجباً نفسيّاً تهيّئيّاً:
الطائفة الاُولى: ما تدلّ على أنّ التفقّه في الدين وتعلّم معالمه واجب نفسي،لكن لا دلالة فيها على كون وجوبه لأجل التهيّؤ لواجب آخر.
منها: قوله تعالى: «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِوَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(1).
فإنّها تدلّ على أنّ «التفقّه في الدين» واجب كفائي(2).
ولم يجعل مقدّمة لغيره كي يكون وجوبه تهيّئيّاً.
فإنّ قوله: «وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ» عطف على قوله: «لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ»،فهو في عرضه، لا من غاياته المتفرّعة عليه، كي يكون «التفقّه في الدين» واجبتهيّئيّاً لأجله.
فكما أنّ «الإنذار» وظيفة نفسيّة أصليّة، فكذلك «التفقّه في الدين» بل هوأولى بذلك، لأنّ لـ «الإنذار» غاية، وهي قوله: «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» دون«التفقّه» فهو مطلوب نفسي أصلي، من دون أن يكون فيه شائبة التهيّئيّة أصلاً.
ومنها: الأخبار الكثيرة الواردة في فضل العلم والعالم والتفقّه في الدين، كمعن أبي جعفر عليهالسلام قال: «الكمال كلّ الكمال التفقّه في الدين، والصبر علىالنائبة، وتقدير المعيشة»(3).
فإنّه يدلّ على أنّ «التفقّه في الدين» بنفسه كمال، بل هو كلّ الكمال، فل
- (2) و«الكفائيّة» تستفاد من قوله: «مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ» ضرورة أنّه لو كان واجباً عينيّاً لوجب النفروالتفقّه على الجميع. منه مدّ ظلّه.
- (3) الكافي 1: 32، كتاب فضل العلم، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، الحديث 4.
(صفحه368)
محالة كان مطلوباً نفسيّاً أصيلاً إمّا وجوباً أو استحباباً، كالمستحبّات الكثيرةالنفسيّة الأصيلة في الشريعة.
والحاصل: أنّ هذا النوع من الأدلّة النقليّة تدلّ على كون الفحص عنالتكاليف الشرعيّة والتفقّه في الاُمور الدينيّة من المطلوبات النفسيّة الأصليّة،إمّا وجوباً أو استحباباً، من دون أن تكون فيه شائبة التهيّئيّة.
الطائفة الثانية: ما تدلّ على أنّ ترك السؤال والفحص لا يكون عذراً، فلووقع المكلّف في مخالفة الحكم الواقعي ـ لأجل الجهل به مع تمكّنه من العلم بهبالفحص والسؤال ـ لم يكن معذوراً يوم القيامة، بل يستحقّ العقاب على ذلك.
وفي هذا المعنى أخبار كثيرة بتعابير مختلفة:
مثل(1) ما روي عن مسعدة بن صدقة قال: سمعت جعفر بن محمّد عليهماالسلام وقدسُئل عن قول اللّه: «فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ»(2) فقال: «إنّ اللّه تعالى يقول للعبديوم القيامة: عبدي أكنتَ عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت،وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت حتّى تعمل، فيخصمه، فتلك الحجّةالبالغة»(3).
- (1) ومثل مرسلة يونس بن عبد الرحمن، عن بعض أصحابه قال: سئل أبو الحسن عليهالسلام : هل يسع الناس تركالمسألة عمّا يحتاجون إليه؟ فقال: «لا».
الكافي 1: 30، كتاب فضل العلم، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه، الحديث 3.
ومثل صحيحة الفضلاء ـ زرارة ومحمّد بن مسلم وبريد العجلي ـ قالوا: قال أبو عبداللّه عليهالسلام لحمران بنأعين في شيء سأله: «إنّما يهلك الناس لأنّهم لا يسألون».
الكافي 1: 40، كتاب فضل العلم، باب سؤال العالم وتذاكره، الحديث 2.
ومثل ما روي عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال: قيل له: إنّ فلاناً أصابته جنابة وهو مجدور، فغسّلوه فمات، فقال:«قتلوه، ألا سألوا؟ ألا يمّموه؟ إنّ شفاء العيّ السؤال».
الكافي 3: 68، كتاب الطهارة، باب الكسير والمجدور ومن به الجراحات وتصيبهم الجنابة، الحديث 5.
إلى غير ذلك ممّا هو ظاهر في أنّ العلم للعمل، كالروايات المنقولة في الكافي 1: 44 ـ 45، باب استعمالالعلم. م ح ـ ى.
ج5
وهذه الطائفة من الروايات إرشاد إلى حكم العقل، من لزوم الفحصوالسؤال والتعلّم، لتماميّة الحجّة على العبد على فرض ورود البيان من قبلالمولى، ولا تدلّ على الوجوب النفسي، ولا النفسي التهيّئي.
والحاصل: أنّه لا يمكن الالتزام بما ذهب إليه المحقّق الأردبيلي وصاحبالمدارك رحمهماالله إذ لا دليل على ثبوت الوجوب النفسي التهيّئي في الشريعة، لعدمكون العقل كاشفاً عنه، ولا الروايات دالّة عليه.
حكم عبادة الجاهل التارك للفحص
قد عرفت أنّ من ترك الفحص يستحقّ العقوبة على مخالفة الواقع، فاعلمهاهنا أيضاً أنّه إذا أتى بعمل عبادي مخالف للواقع باستناد البراءة الشرعيّة أوالعقليّة(1) كان باطلاً، فيجب عليه الإعادة أو القضاء، فلو شكّ في جزئيّةالسورة مثلاً للصلاة وأتى بها فاقدة لها ـ من دون أن يرجع إلىالمنابع لتحصيلالعلم بالمسألة إذا كان مجتهداً، ومن دون أن يسأل المجتهد إذا كان مقلّداً ـ كانتصلاته باطلة، لكونه جاهلاً مقصّراً وأتى بعبادة فاقدة لجزئها بدون مبرّرلذلك، لأنّه لم يكن محقّاً في إجراء البراءة قبل الفحص.
إن قلت: فما معنى حديث «لا تعاد»(2)؟ هل لا يعمّ الجاهل المقصّر؟
قلت: لو فرض شموله له فذكر الصلاة وجزئيّة السورة لها إنّما هو منباب المثال، وإلاّ فالبحث يعمّ سائر العبادات التي لا مجال لحديث «لا تعاد»فيها.
- (1) تفسير نور الثقلين 1: 775، الحديث 330 من أحاديث سورة «الأنعام».
- (2) وفرضنا تمشّي قصد القربة المعتبر في العبادات منه. منه مدّ ظلّه.
- (3) وهو ما رواه الصدوق رحمهالله بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليهالسلام أنّه قال: «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة:الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود».
وسائل الشيعة 6: 91، كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5.
(صفحه370)
والحاصل: أنّ القاعدة تقتضي بطلان عبادة الجاهل التارك للفحص إذكانت فاقدة لبعض الخصوصيّات المعتبرة فيها، مضافاً إلى كونه مستحقّللعقاب على مخالفة المولى.
حكم الإتمام مكان القصر وكلّ من الجهر والإخفات مكان الآخر
ثمّ إنّ هاهنا موردين ناقضين للقاعدة ظاهراً، فلابدّ من حلّ الإشكالفيهما:
1ـ إتمام الصلاة في موضع القصر(1).
2ـ الجهر في موضع الإخفات وبالعكس.
فإنّ مقتضى النصّ(2) والفتوى في هذين الموردين ثلاثة اُمور:
أ ـ صحّة هذه الصلاة، وإن صدرت عن الجاهل المقصّر.
ب ـ أنّه مع ذلك يستحقّ العقوبة على ترك القصر في المورد الأوّل، وعلىترك الإخفات أو الجهر في المورد الثاني.
ج ـ أنّه لا يتمكّن من رفع استحقاق العقوبة عنه بوجه من الوجوه أصلاً،حتّى لو صلّى تماماً في موضع القصر، أو جهراً في موضع الإخفات أو بالعكسحال كونه جاهلاً مقصّراً، ثمّ صار عالماً بالواقع في الوقت وأعادها بما يطابقه،
- (1) دون العكس، فإنّ من قصّر مكان الإتمام لم يحكم بصحّة صلاته. منه مدّ ظلّه.
- (2) والمراد بالنصّ في صورة الإتمام مكان القصر: هو صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم قالا: قلنا لأبيجعفر عليهالسلام : رجل صلّى في السفر أربعاً أيعيد أم لا؟ قال: «إن كان قرأت عليه آية التقصير وفسّرت لهفصلّى أربعاً، أعاد، وإن لم يكن قرأت عليه ولم يعلمها، فلا إعادة عليه».
وسائل الشيعة 8 : 506، كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
وفي صورة الجهر مكان الإخفات وبالعكس: هو صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام في رجل جهر فيما لينبغي الإجهار فيه، وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه، فقال: «أيّ ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعليهالإعادة، فإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمّت صلاته».
وسائل الشيعة 6: 86 ، كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1. م ح ـ ى.
ج5
لم يكن مفيداً في رفع استحقاق العقوبة عنه.
ويتوجّه الإشكال عليه بحسب ظاهر القواعد:
فإنّ العمل المخالف للمأمور به كيف يمكن أن يتّصف بالصحّة؟ مع أنّالصحّة عبارة عن مطابقة المأتيّ به للمأمور به.
وعلى فرض صحّته لماذا يستحقّ العقوبة؟
سلّمنا، ولكن لابدّ من القول بترتّب استحقاق العقوبة في خصوص ما إذا لميأت بالمأمور به الواقعي إلى آخر الوقت، وأمّا إذا زال جهله وأتى به قبلانقضاء الوقت فلا وجه لاستحقاق العقوبة.
ولقد ذكر وجوه من قبل الأعلام للتفصّي عن الإشكال في المقام:
كلام صاحب الكفاية رحمهالله في الجواب عن الإشكال
الأوّل ـ وهو أجود ما ذكر في المسألة ـ : هو الذي أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله بقوله:
قلت: إنّما حكم بالصحّة لأجل اشتمالها على مصلحة تامّة لازمة الاستيفاءفي نفسها مهمّة في حدّ ذاتها، وإن كانت دون مصلحة الجهر والقصر، وإنّملم يؤمر بها(1) لأجل أنّه أمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الأكمل
- (1) ولا نلتزم بتوقّف صحّة العبادة على الأمر، بل يكفي فيها صرف اشتمالها على مصلحة لازمة الاستيفاء،وإن لم يؤمر بها لجهة من الجهات، ولأجل ذلك نحكم بصحّة صلاة من ترك «الإزالة» في مسألة الضدّ،فإنّها وإن لم تكن مأموراً بها لأجل ابتلائها بضدّ أهمّ، إلاّ أنّها مشتملة على المصلحة التي تشتمل عليهالصلاة التي لم تبتل بمثل هذا الضدّ، لكونها ناهية عن الفحشاء والمنكر ومعراج المؤمن وقربان كلّ تقيّ،مثلها.
ولأجل ذلك لم نلتزم بـ «الترتّب» خلافاً لمن ذهب إلى توقّف صحّة العبادة على الأمر، فإنّه اضطرّ إلى أنيلتجأ ـ لتصحيح الصلاة مكان الإزالة ـ إلى مسألة «الترتّب» بمعنى أنّ المولى أمر بـ «الإزالة» مطلقاً،وبالصلاة مشروطاً بعصيان الأمر بـ «الإزالة» بنحو الشرط المتأخّر، أو بالعزم على عصيانه، بنحو الشرطالمقارن. منه مدّ ظلّه توضيحاً لكلام المحقّق الخراساني رحمهالله .