ج5
وشككنا في أنّ سائر الأجزاء هل هي واجبة بالوجوب النفسي، فيجبالإتيان بها، أم لا، فيسقط التكليف رأساً، فأصل البراءة الشرعيّة حينئذٍ يحكمبرفع الوجوب النفسي وأثره عدم لزوم الإتيان بسائر الأجزاء، فالأصلفي ناحية الأقلّ وإن لم يكن له أثر فيما نحن فيه، إلاّ أنّ له أثراً في بعض موارده،وهذا كافٍ في جريانه في جميع الموارد.
والحاصل: أنّ جريان الأصل الشرعي ـ المستفاد من مثل «حديث الرفع» في الواجب النفسي المتعلّق بالأكثر معارض بجريانه في الواجب النفسي المتعلّقبالأقلّ، فلا يجري في واحد منهما.
كلام صاحب الكفاية في كيفيّة جريان حديث الرفع في المقام
وأمّا الثاني ـ أعني جريان البراءة الشرعيّة بالنسبة إلى الجزئيّة ـ : فالمحقّقالخراساني رحمهالله قال به في الكفاية، حيث قال: وأمّا النقل فالظاهر أنّ عموم مثل«حديث الرفع» قاضٍ برفع جزئيّة ما شكّ في جزئيّته، فبمثله يرتفع الإجمالوالتردّد عمّا تردّد أمره بين الأقلّ والأكثر ويعيّنه في الأوّل(1).
ثمّ أورد إشكالاً وأجاب عنه بقوله:
لا يقال: إنّ جزئيّة السورة المجهولة مثلاً ليست بمجعولة(2)، وليس لها أثر
- (2) اختلفوا في إمكان تعلّق الجعل بالأحكام الوضعيّة، وفصّل المحقّق الخراساني رحمهالله بين أقسامها بقوله:
والتحقيق أنّ ما عدّ من الوضع على أنحاء: منها: ما لا يكاد يتطرّق إليه الجعل تشريعاً أصلاً، لا استقلالاً ولتبعاً، ومنها: ما لا يكاد يتطرّق إليه الجعل التشريعي إلاّ تبعاً للتكليف، ومنها: ما يمكن فيه الجعل استقلالبإنشائه وتبعاً للتكليف.
ثمّ جعل الجزئيّة من القسم الثاني، حيث قال: وأمّا النحو الثاني: فهو كالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّةوالقاطعيّة لما هو جزء المكلّف به وشرطه ومانعه وقاطعه، حيث إنّ اتّصاف شيء بجزئيّة المأمور به أوشرطيّته أو غيرهما لا يكاد يكون إلاّ بالأمر بجملة اُمور مقيّدة بأمر وجودي أو عدمي، إنتهى موضعالحاجة من كلامه. كفاية الاُصول: 455. م ح ـ ى.
(صفحه188)
مجعول، والمرفوع بحديث الرفع إنّما هو المجعول بنفسه أو أثره، ووجوبالإعادة إنّما هو أثر بقاء الأمر بعد العلم، مع أنّه عقلي وليس إلاّ من بابوجوب الإطاعة عقلاً.
لأنّه يقال: إنّ الجزئيّة وإن كانت غير مجعولة بنفسها، إلاّ أنّها مجعولة بمنشانتزاعها، وهذا كافٍ في صحّة رفعها(1)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه رحمهالله .
نقد كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في المسألة
أقول: لا تجري البراءة الشرعيّة بالنسبة إلى الجزئيّة بناءً على ما اختارهالأعاظم ـ ومنهم المحقّق الخراساني رحمهالله ـ من عدم تطرّق الجعل التشريعيإلىمثل الجزئيّة إلاّ تبعاً للتكليف، وما ذكره المحقّق الخراساني رحمهالله في توجيهجريانها غير تامّ.
وذلك لأنّ جعل الجزئيّة إذا كان بجعل منشأ انتزاعها كان رفعها أيضبرفعه، ولا يمكن رفعها مستقلاًّ، ومنشأ انتزاعها هو الوجوب النفسي المتعلّقبالأكثر، وقد عرفت أنّ رفعه معارض لرفع الوجوب النفسي المتعلّقبالأقلّ.
نعم، لو كانت الجزئيّة قابلة للوضع والرفع تشريعاً بنحو الاستقلال لصحّالتمسّك بحديث الرفع في المقام.
لكنّ جلّ العلماء بل كلّ الأعاظم منهم قالوا بعدم تطرّق الجعل إليها إلاّ تبعللتكليف.
ولا عجب من المحقّق الخراساني رحمهالله فيما ذكره هاهنا، فإنّه لم يتعرّض إللجريان البراءة الشرعيّة في الجزئيّة، ولكن العجب من المحقّق العراقي رحمهالله حيث
ج5
استشكل على جريان البراءة الشرعيّة في الوجوب النفسي المتعلّق بالأكثربأنّه معارض بالأصل الجاري في ناحية الأقلّ، ومع ذلك ذهب إلى جريانالبراءة في الجزئيّة، واستدلّ عليه بعين ما استدلّ به صاحب الكفاية رحمهالله (1).
ولم يشعر بأنّه يرجع إلى جريان البراءة في الوجوب النفسي المتعلّق بالأكثرويرد عليه ما أورده عليه.
وأمّا الثالث ـ أعني جريان الأصل في الوجوب الغيري المتعلّق بالجزءالمشكوك ـ : فيرد عليه أنّه مبنيّ على وجوب المقدّمة وشمول البحث في مقدّمةالواجب للمقدّمات الداخليّة، ونحن لا نقول بوجوب المقدّمة أوّلاً، والقائلونبوجوبها الغيري لا يقولون به إلاّ في المقدّمات الخارجيّة ثانياً.
وهاهنا إشكال آخر يتّضح بملاحظة أمرين:
أ ـ أنّ الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة وجوب شرعي مسبّب عنالوجوب الشرعي النفسي المتعلّق بذي المقدّمة، فالسبب والمسبّب مجعولانشرعاً، لكنّ السببيّة تكون عقليّة، وبعبارة اُخرى: الوجوب الغيري لازمللوجوب النفسي ومسبّب عنه والحاكم بالملازمة هو العقل، ولذا عدّ بحثمقدّمة الواجب من أبحاث الملازمات العقليّة، لا من مباحث الألفاظ.
ب ـ أنّ السببيّة بين الشيئين إذا كانت شرعيّة ـ بمعنى أنّ الشارع بيّن تأثيرالسبب في المسبّب، مثل أن يقول: نجاسة الملاقى سبب لنجاسة الملاقي فالأصل الجاري في السبب مانع عن جريان الأصل في المسبّب.
نعم، لو لم يجر الأصل في ناحية السبب لابتلائه بمانع ـ كالتعارض ـ فلا مانعمن جريانه في ناحية المسبّب، فالسببيّة الشرعيّة موجبة لتقدّم جريان الأصلفي السبب وتأخّر جريانه في المسبّب.
- (1) نهاية الأفكار 3: 390.
(صفحه190)
وأمّا إذا كان بين الشيئين سببيّة عقليّة فيكون الأصلان في رتبة واحدة، ولتقدّم لجريان الأصل في ناحية السبب على جريانه في ناحية المسبّب، فلا مانعمن جريانهما معاً.
إذا عرفت هاتين المقدّمتين نقول: لا تجري أصالة البراءة الشرعيّة فيالوجوب الغيري المتعلّق بالجزء المشكوك، لأنّا قلنا في المقدّمة الاُولى: ترتّبالوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة على الوجوب النفسي المتعلّق بذي المقدّمةعقلي، وقلنا في المقدّمة الثانية: لا حكومة للأصل الجاري في السبب علىالأصل الجاري في المسبّب فيما إذا كانت السببيّة بينهما عقليّة، فحيث يكونالترتّب هاهنا عقليّاً يجري الأصل في الوجوب الغيري المتعلّق بالجزءالمشكوك، وفي الوجوب النفسي المتعلّق بالأكثر كليهما، ولا تقدّم لجريانالأصل في الثاني على جريانه في الأوّل ولا نتمكّن من إجراء الأصل فيالوجوب الغيري بدون إجرائه في الوجوب النفسي، لأنّه إذا جرى في الأوّلجرى في الثاني لا محالة لأجل الملازمة، فمقتضى المقدّمتين جريان الأصل فيكليهما، ولكن يعارضهما الأصل الجاري في الوجوب النفسي المتعلّق بالأقلّ، لمعرفت(1) من تعارض الأصل الجاري في الوجوب النفسي المتعلّق بالأكثر معالأصل الجاري في الوجوب النفسي المتعلّق بالأقلّ.
وبعبارة اُخرى: ما تقدّم في الجواب عن الوجه الأوّل بضميمة ما ذكرناه منالمقدّمتين هاهنا ينتج أنّ التعارض وقع بين اُصول ثلاثة، لأنّ أحد طرفيالمعارضة هو الأصل الجاري في الوجوب النفسي المتعلّق بالأقلّ،والطرف الآخر هو الأصل الجاري في الوجوب النفسي المتعلّقبالأكثر والأصل الجاري في الوجوب الغيري المتعلّق بالجزء المشكوك
ج5
كلاهما، وإذا حصل التعارض تساقط الاُصول الثلاثة كلّها، فلا تجري أصالةالبراءة في الوجوب الغيري المتعلّق بالجزء المشكوك، كما لا تجري فيالوجوبين النفسيّين.
نعم، لو كانت الملازمة شرعيّة لكان الأصل الجاري في السبب حاكماً علىالأصل الجاري في المسبّب، وحيث إنّ الأصل السببي معارض بالأصلالجاري في الوجوب النفسي المتعلّق بالأقلّ تساقطا، فيجري الأصل المسبّبيـ أعني أصالة البراءة عن الوجوب الغيري المتعلّق بالجزء المشكوك ـ بلمعارض، لكن كون الترتّب في مقدّمة الواجب عقليّاً واضح بديهي.
والحاصل: أنّا لو قلنا بعدم جريان البراءة العقليّة في الدوران بين الأقلّوالأكثر لم يجر البراءة الشرعيّة أيضاً بوجه من الوجوه.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقةالقطعيّة أو مقتضياً له، فإنّ المانع من الجريان هو التعارض في جميع الوجوه،والتعارض متحقّق حتّى فيما إذا كان العلم الإجمالي مقتضياً لوجوب الموافقةالقطعيّة.
وبعبارة أوضح: عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي إنّمهو لأجل استلزامه المخالفة القطعيّة العمليّة، ولا ربط له بكون العلم الإجماليعلّة لوجوب الموافقة القطعيّة، فإنّ الاستلزام متحقّق وإن قلنا بكون العلممقتضياً له.
نقد كلام المحقّق العراقي رحمهالله في المسألة
فلا وجه لما اختاره المحقّق العراقي رحمهالله من جريان الأصل بناءً على الاقتضاءوعدم جريانه بناءً على العلّيّة.