(صفحه374)
لكن استشكل عليه المحقّق النائيني رحمهالله بإشكالين آخرين بقوله:
وفيه: أنّ المقام أجنبيّ عن الخطاب الترتّبي ولا يندرج في ذلك الباب، لأنّهيعتبر في الخطاب الترتّبي أن يكون كلّ من متعلّق الخطابين واجداً لتمام ما هوالملاك ومناط الحكم بلا قصور لأحدهما في ذلك، ويكون المانع عن تعلّقالأمر بكلّ منهما هو عدم القدرة على الجمع بين المتعلّقين في الامتثال، لما بينالمتعلّقين من التضادّ، والمقام لا يكون من هذا القبيل، لعدم ثبوت الملاك في كلّمن القصر والتمام، وإلاّ لتعلّق الأمر بكلّ منهما، لإمكان الجمع بينهما، وليسكالضدّين اللذين لا يمكن الجمع بينهما، فعدم تعلّق الأمر بكلّ منهما يكونكاشفاً قطعيّاً عن عدم قيام الملاك فيهما.
هذا، مع أنّه يعتبر في الخطاب الترتّبي أن يكون خطاب المهمّ مشروطبعصيان خطاب الأهمّ، وفي المقام لا يمكن ذلك، إذ لا يعقل أن يخاطب التاركللقصر بعنوان «العاصي» فإنّه لا يلتفت إلى هذا العنوان، لجهله بالحكم، ولوالتفت إلى عصيانه يخرج عن عنوان الجاهل ولا تصحّ منه الصلاة التامّة، فليندرج المقام في صغرى الترتّب.
والشيخ قدسسره كأنّه سلّم اندراج المقام في صغرى الترتّب، ومنع عن الكبرى،حيث قال: «وفيه أنّا لا نعقل الترتّب» ولكنّ الحقّ منع الصغرى وتسليمالكبرى، كما أوضحناه في محلّه(1)، إنتهى كلامه رحمهالله .
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في المسألة
ويرد على إشكاله الأوّل: أنّ العبادات مسائل تعبّديّة، وتشخيص تحقّقالتضادّ وعدمه بينها إنّما هو بيد الشارع، والصلاة التامّة وإن لم تكن ضدّ
- (1) فوائد الاُصول 4: 293.
ج5
للمقصورة(1) بحسب الوقت، لوسعته لكلتيهما، إلاّ أنّهما يمكن أن تتضادّا بحسبجهة اُخرى، فإذا أمكن تحقّق التضادّ بينهما وكشف عنه النصّ والفتوى ـ كما فيالمقام ـ لم يتمكّن المكلّف من الجمع بينهما حتّى في وسعة الوقت، كما قال المحقّقالخراساني رحمهالله .
فلا فرق بين «الصلاة» و«الإزالة» وبين «الإتمام» و«القصر» من حيثالتضادّ وعدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما، فمن قال بصحّة «الترتّب» في تلكالمسألة ـ كالمحقّق النائيني رحمهالله ـ فلابدّ من أن يلتزم بصحّته هاهنا أيضاً.
وعلى إشكاله الثاني: أنّه مبنيّ على كون التكليف الترتّبي بنحو الخطابالشخصي، وأمّا إذا كان بغير الخطاب، كما إذا قال: «يجب على المسافر الكذائيصلاة القصر» ثمّ قال: «وإن عصى الأمر بالقصر لأجل الجهل ولو عن تقصيريجب عليه الإتمام» فلم يكن مستحيلاً، ضرورة أنّ المصلّي لا يلتفت ـ حينالإتيان بالصلاة التامّة ـ إلى هذين الدليلين، وبعد الإتيان بها وارتفاع جهلهصار بصدد استعلام أنّ ما جاء به هل هو صحيح أو فاسد، فالتفت إلى كونهمصداقاً للعنوان المذكور في الدليل الثاني.
وكذلك ما إذا كان بخطاب عامّ، كأن يقول: «يا أيّها المسافرونصلّوا قصراً» ثمّ يقول: «وإن عصيتم الأمر بالقصر لأجل الجهل ولوعن تقصير فصلّوا تماماً»، فإنّ هذا أيضاً لا يكون ممتنعاً، لأنّ المصلّيلا يلتفت إلى هذين الخطابين العامّين حين الإتيان بالصلاة التامّة، وإن ارتفعجهله بعداً.
بيان ما هو الحقّ في نقد القول بالترتّب في المقام
- (1) ذكر «القصر» و«الإتمام» إنّما هو من باب المثال، وإلاّ فالبحث يعمّ «الجهر» و«الإخفات» أيضاً. م ح ـ ى.
(صفحه376)
لكن يمكن المناقشة في «الترتّب» الذي قال به كاشف الغطاء رحمهالله بوجهينآخرين:
أ ـ أنّ دعوى «الترتّب» تستلزم استحقاق عقوبتين فيما إذا خالف المكلّفكلا التكليفين، وهذا لا يمكن الالتزام به في المقام، فإنّ المسافر الذي تركصلاتي القصر والتمام كلتيهما لا يستحقّ إلاّ عقوبة واحدة، لعدم كونه مكلّفبأكثر من صلاة واحدة.
على أنّ الالتزام بتعدّد العقاب يستلزم أن يكون الجاهل المقصّر أسوء حالمن العالم، فإنّ من علم بوجوب القصر عليه وتركها لا يستحقّ إلاّ عقوبةواحدة بالاتّفاق، لعدم جريان «الترتّب» في حقّه، بخلاف الجاهل الذي كلّففرضاً بتكليفين مترتّبين ويستحقّ على تركهما عقابين اثنين.
بخلاف مسألة «الإزالة» و«الصلاة» في باب الضدّ، فإنّه يجوز هناك القولبترتّب استحقاق عقوبتين عند ترك كلا التكليفين.
والحاصل: أنّه لا يمكن القول بالترتّب في المقام، ولو قلنا بإمكانه فيمسألة الضدّ.
ب ـ أنّ الأمر بـ «المهمّ» في باب الترتّب معلّق على عصيان الأمربـ «الأهمّ»، وهذا وإن كان قابلاً للتصوّر في مسألة الضدّ، إلاّ أنّه لا يتصوّر فيالمقام، فإنّ من دخل المسجد في وسعة وقت الصلاة والتفت إلى كونه نجسوجب عليه الإزالة فوراً، فإن تركها في أوّل زمان إمكانها فقد تحقّق العصيان،فيتوجّه عليه الأمر بالصلاة بناءً على القول بالترتّب.
بخلاف المقام، فإنّ «الأهمّ» هاهنا هو «صلاة القصر» التي هي منالواجبات الموسّعة، لا الفوريّة، ولا يكاد يتحقّق عصيان أمرها إلاّ بعد انقضاءوقتها الذي(1) ينقضي به وقت «المهمّ» أيضاً، فلا يعقل تعلّق الأمر الترتّبي
- (1) صفة للانقضاء، لا للوقت. م ح ـ ى.
ج5
بالصلاة التامّة على تقدير عصيان الأمر بالصلاة المقصورة.
نعم، بناءً على كفاية العزم على عصيان الأمر بالأهمّ في تعلّق الأمر بالمهمّيمكن تصوير الترتّب في المقام أيضاً.
والحاصل: أنّه لا يمكن التفصّي عن الإشكال بما التزم به الشيخ المحقّقكاشف الغطاء من الأمر الترتّبي، لامتناع الترتّب في المقام، ولو بنينا علىإمكانه في محلّه الذي هو مسألة الضدّ.
كلام المحقّق العراقي رحمهالله في المقام
الجواب الثالث: ما أفاده المحقّق العراقي قدسسره فإنّه بعد بيان الإشكالقال:
ولكن يمكن الذبّ عن الإشكال بالالتزام بتعدّد المطلوب، بأن يكونالجامع بين القصر والتمام، وكذا الجهر والإخفات مشتملاً على مرتبة منالمصلحة الملزمة، ويكون لخصوصيّة القصريّة، وكذا الجهريّة مصلحة زائدةملزمة أيضاً، مع كون المأتيّ به الفاقد لتلك الخصوصيّة من جهة وفائه بمصلحةالجامع المتحقّق في ضمنه مفوّتاً للمصلحة الزائدة القائمة بالخصوصيّة القصريّةأو الجهريّة، بحيث لا يبقى مع استيفائها به مجال لتحصيل المصلحة الزائدةالقائمة بالخصوصيّة، وذلك أيضاً لا بمناط العلّيّة كي يلزم حرمته وفساده، بلبمناط المضادّة بين المصلحتين، ولو من جهة حدّيهما القائمين بالخصوصيّاتالمفردة للطبيعة، فإنّه بهذا البيان يمكن الجمع بين صحّة المأتيّ به في حال الجهلوتماميّته في الوفاء بالفريضة الفعليّة، وبين استحقاق العقوبة على ترك الواجب،حيث إنّ صحّة المأتيّ به وتماميّته إنّما هو لوفائه بمرتبة من المصلحة الملزمة
(صفحه378)
القائمة بالجامع المتحقّق في ضمنه وصيرورته بذلك مأموراً به بمرتبة من الأمرالمتعلّق بالجامع ضمناً.
وأمّا استحقاق العقاب فهو من جهة تفويته للمصلحة الزائدة القائمةبالخصوصيّة القصريّة، أو الجهريّة والإخفاتيّة(1)، إنتهى موضع الحاجة منكلامه رحمهالله .
الفرق بين كلامي المحقّق العراقي والخراساني
وهذا وإن كان يقرب من جواب المحقّق الخراساني رحمهالله المتقدّم نقله منالكفاية، إلاّ أنّهما يفترقان من جهات ثلاث:
أ ـ أنّ المحقّق الخراساني قال بكون خصوص التمام ذا مصلحة ملزمة، لالجامع بينه وبين القصر، كما قال به المحقّق العراقي رحمهالله .
ب ـ أنّ المحقّق الخراساني قال بعدم إمكان استيفاء المصلحة الزائدة القائمةبالقصر لأجل التضادّ بينه وبين التمام، ولكنّ المحقّق العراقي قال به لا لذلك، بللأنّه لا يبقى مع استيفاء المصلحة المتحقّقة في الجامع مجال لتحصيل المصلحةالزائدة القائمة بالخصوصيّة(2)، وذلك لعدم تحقّق التضادّ بين الطبيعي وفرده.
ج ـ أنّ المحقّق الخراساني لم يقل بكون الصلاة التامّة مأموراً بها، بل هيمشتملة على مصلحة ملزمة من دون أن يتعلّق أمر بها، والمحقّق العراقي قالبكون الجامع مأموراً به.
حول نظريّة المحقّق العراقي رحمهالله
- (1) نهاية الأفكار 3: 483.
- (2) ويمكن تقريبه إلى الذهن بمثال عرفي، وهو أنّ المولى إذا كان عطشاناً، فطلب ماءً بارداً بنحو تعدّدالمطلوب، بأن يكون أصل الماء مطلوباً له، وكونه بارداً مطلوباً آخر، فإذا أحضر العبد ماءً غير بارد وشربهالمولى، لا يبقى بعد رفع عطشه به مجال لشرب الماء البارد الذي كان يرغب فيه أكثر من رغبته في أصلالماء. منه مدّ ظلّه.