وذلك لأنّ العلم بالملاقاة قد يكون بعد العلم الإجمالي بنجاسة بعضالأطراف، وقد يكون قبله وقد يكون مقارنا له.
والملاقى ـ بالفتح ـ تارةً يكون حين حدوث العلم الإجمالي داخلاً في محلّالابتلاء، واُخرى يكون خارجا عنه.
وأيضاً أحد طرفي العلم الإجمالي إمّا أن يكون هو الملاقى ـ بالفتح ـ أوالملاقي ـ بالكسر ـ أو مجموعهما، والطرف الآخر في جميع هذه الفروض شيءآخر غيرهما.
من النجاسات نجسا و منجّسا لما يلاقيه؟ فالملاقي موضوع آخر للنجاسة،فكما أنّ نجاسة الدم حكم وضعي تعبّدي استقلالي كذلك نجاسة ملاقيه، وكمأنّ لزوم الاجتناب عن الدم حكم تعبّدي مستقلّ، كذلك وجوب الاجتنابعن ملاقيه وليس من مصاديق لزوم الاجتناب عن الدم. وبعبارة اُخرى:قوله عليهالسلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(1) يدلّ على أنّ للشارع ـ حينملاقى الماء القليل دما ـ ثلاثة أحكام:
أ ـ نجاسة الدم ولزوم الاجتناب عنه.
ب ـ سببيّة الدم لنجاسة ملاقيه.
ج ـ نجاسة الملاقي ـ الذي هو الماء في المثال ـ ولزوم الاجتناب عنه.
وبالجملة: هل تكون نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ ولزوم الاجتناب عنه حكممستقلاًّ أو من توابع نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ ولزوم الاجتناب عنه؟
يستفاد من كلمات بعضهم الثاني(2)، ولذا استدلّ على تنجّس الماء القليلبملاقاة النجاسة بما دلّ على وجوب هجر النجاسات في قوله تعالى: «وَالرُّجْزَفَاهْجُرْ»(3) بدعوى أنّ الاجتناب عن «الرجز» يراد به ما يعمّ الاجتناب عنملاقيه.
وفيه: أنّ ظاهر الآية هو وجوب الاجتناب عن نفس «الرجز» لاعنه وعنملاقيه.
وادّعى دلالة بعض الأخبار أيضاً عليه، وهو رواية عمرو بن شمر عن
- (1) وسائل الشيعة 1: 158 و 159، كتاب الطهارة، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1، 2، 5 و 6.
- (2) نسب الشيخ الأعظم رحمهالله هذا القول إلى السيّد أبي المكارم في الغنية ثمّ ناقش فيه. راجع فرائد الاُصول2: 239. م ح ـ ى.
ج5
جابر الجعفي عن أبي جعفر عليهالسلام أنّه أتاه رجل فقال: وقعت فأرة في خابية(1)فيها سمن أو زيت، فما ترى في أكله؟ قال: فقال له أبو جعفر عليهالسلام : «لا تأكله»فقال له الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها، قال: فقال لهأبو جعفر عليهالسلام : «إنّك لم تستخفّ بالفأرة، وإنّما استخففت بدينك، إنّ اللّه حرّمالميتة من كلّ شيء»(2).
وجه الدلالة: أنّه عليهالسلام جعل ترك الاجتناب عن الطعام استخفافا بتحريمالميتة، ولولا استلزامه لتحريم ملاقيه لم يكن أكل الطعام استخفافا بتحريمالميتة، فوجوب الاجتناب عن شيء يستلزم وجوب الاجتناب عن ملاقيه.
وفيه أوّلاً: أنّ الرواية ضعيفة سندا.
وثانيا: أنّها بصدد بيان تحريم الميتة من قبل اللّه تعالى، لا تنجيسها الذي هوالمتنازع فيه، وكون التحريم فيها بمعنى التنجيس خلاف الظاهر، على أنّ بعضأنواع الميتة ـ كالسمك ـ تكون محرّمة ولا تكون نجسة، فلا وجه لجعل«التحريم» بمعنى «التنجيس».
وبالجملة: إنّ الإمام عليهالسلام ذكر «الحرمة» في مقام الاستدلال، وهي أعمّ من«النجاسة» التي هي المتنازع فيها.
لكنّ هاهنا إشكالاً، وهو أنّه لا ملازمة بين حرمة الشيء وحرمة ملاقيه،بل الملازمة تختصّ بمسألة النجاسة، فكيف علّل الإمام عليهالسلام حرمة السمن أوالزيت الملاقي للفأرة بحرمة الميتة؟!
ولعلّ هذا الإشكال دعا بعضهم إلى تفسير «التحريم» في الروايةبـ «التنجيس».
- (1) الخابية: ما يحفظ ويستتر فيه الشيء، ويقال له بالفارسيّة: «خم». م ح ـ ى.
- (2) وسائل الشيعة 1: 206، كتاب الطهارة، الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحديث 2.