(صفحه104)
مسلكهم في التفهيم والتفهّم ـ تارةً: يريدون بيان قانون يرجع إليه في مواردالشكّ في التخصيص(1)، فحينئذٍ تتعلّق إرادتهم الاستعماليّة(2) بالعموم، ثمّيبيّنون الموارد الخاصّة التي أرادوا إخراجها عن تحت العموم بأدلّة منفصلة،فالعامّ استعمل في العموم وانعقد له ظهور فيه، والمخصّص المنفصل كاشف عنتغاير الإرادة الاستعماليّة مع الجدّيّة من دون أن يكشف عن عدم ظهور العامّفي العموم، فالعامّ هو المرجع في موارد الشكّ في التخصيص.
واُخرى: يريدون تضييق دائرة الخطاب من بداية الأمر، فحينئذٍ يعبّرونبمخصّص متّصل، مثل «أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم» فالإرادة الاستعماليّةـ كالجدّيّة ـ تختصّ بغير مورد الخاصّ، ولا ينعقد للعامّ ظهور إلاّ فيه.
وبالجملة: ثمرة التخصيص بالمنفصل هي انعقاد الظهور للعامّ في العموم كييكون قاعدة كلّيّة يتمكّن العبد من الرجوع إليها في موارد الشكّ.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المخصّص العقلي النظري ليس كالمخصّص اللفظيالمنفصل، إذ لم يرد المولى فيه بيان قانون كلّي ليخرج الموارد الخاصّة فيما بعد،كالمخصّص اللفظي المنفصل، بل لم ينعقد للعامّ ظهور في العموم من بداية الأمر،لكنّ العبد كان يتخيّل ظهوره فيه، وبعد مرور زمان ينكشف له عدم انعقادالظهور له(3).
والحاصل: أنّه لا فرق بين المخصّص العقلي الضروري والنظري إلاّ منحيث سرعة انتقال الذهن إليه وبطؤه، وأمّا من حيث الأحكام فهم
- (1) وكذلك الأمر في موارد الإطلاق والتقييد. م ح ـ ى.
- (2) وهي عبارة اُخرى عن الإرادة القانونيّة. منه مدّ ظلّه.
- (3) وبعبارة اُخرى: المخصّص اللفظي المنفصل منفصل عن العامّ حقيقةً، فلا يمنع عن استقرار الظهور له،بخلاف المخصّص العقلي النظري، فإنّه لا ينفصل عن العامّ واقعا، فهو يمنع عن ظهوره، لكنّ العبد أخطوتخيّل قبل انتقال ذهنه إلى المخصّص أنّ العامّ ظاهر في العموم، مع أنّه لم يكن كذلك واقعا. م ح ـ ى.
ج5
كالمخصّصات اللفظيّة المتّصلة.
وثانيا: أنّ ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله من الفرق بين المخصّص الذي له عنوانواقعي غير ذي مراتب، وبين الذي له مراتب مختلفة، وجوّز التمسّك بالعامّفي الثاني حتّى في المخصّص المتّصل ـ لفظيّا أو لبّيّا ـ دون الأوّل، معلّلاً بأنّالشكّ في الثاني يرجع إلى التخصيص الزائد فيما عدا المراتب المتيقّنة.
ففيه: أنّه لم يتبيّن الفرق بين مفهوم «الفاسق» ومفهوم «الخارج عن محلّالابتلاء» حيث جعل الثاني مختلف المراتب دون الأوّل، مع أنّ الخروج عنطاعة اللّه له مراتب مختلفة: مرتبة منه ارتكاب الصغائر، ومرتبة اُخرى أشدّمنه، وهو ارتكاب الكبائر، ومرتبة ثالثة أشدّ منهما، وهو ارتكاب الموبقات،ونشكّ في مفهوم «الفاسق» أنّه مطلق الخارج عن طاعة اللّه أو الخارج عنهبمرتبة شديدة، كما أنّ البلاد مختلفة المراتب من حيث القرب والبُعد، فبعضها فيأقصى نقاط المغرب، وبعضها أقرب منه، ونشكّ في أنّ الخارج عن محلّالابتلاء هو البلاد النائية جدّا أو الأعمّ منها.
لكنّ هذا مناقشة في المثال.
والمناقشة الحقيقيّة في كلامه: هي أنّا لا نسلّم أنّ المخصّص إذا كان ذا مراتبوكانت مرتبة منه هي القدر المتيقّن ومرتبة اُخرى مشكوكة جاز التمسّك بالعامّفي المرتبة المشكوكة حتّى فيما إذا كان المخصّص متّصلاً، بدعوى أنّه من قبيلالشكّ في التخصيص الزائد.
وذلك لعدم تعدّد التخصيص كي يكون أحدهما متيقّنا والآخر مشكوكا،بل هو أمر واحد مردّد بين خصوص المرتبة القويّة المتيقّنة وبين شمولها لهوللمرتبة الضعيفة المشكوكة، فالمخصّص أمر واحد مردّد بين الأقلّ والأكثر،واتّصاله بالعامّ يمنع عن انعقاد الظهور له، كما يمنع عنه اتّصال المخصّص المردّد
(صفحه106)
بين المتباينين(1)، وذلك لأنّ انعقاد الظهور للكلام مشروط بفراغ المتكلّم عنه،فلا يكاد يستقرّله الظهور ما دام مشتغلاً به، فالمخصّص المتّصل قرينة لفظيّةمتّصلة بالكلام مانعة عن انعقاد الظهور له في العموم، ولا فرق في ذلك بينكونه ذا مراتب أو غير ذي مراتب؛ لأنّ تمام الملاك لعدم تحقّق الظهور للكلامهو اتّصال القرينة، لا اتّصال القرينة غير ذات المراتب.
والحاصل: أنّ ما ذكره الشيخ الأعظم لإثبات وجوب الاحتياط في مواردالشكّ في خروج بعض أطراف العلم الإجمالي عن محلّ الابتلاء، وما أفادهالمحقّق النائيني رحمهالله في توضيحه، غير تامّ.
كلام صاحب الكفاية رحمهالله في المقام
والمحقّق الخراساني رحمهالله بيّن ابتداءً ملاك «الابتلاء» ثمّ اختار البراءة في موردالشكّ فيه حيث قال:
إنّ الملاك في «الابتلاء» المصحّح لفعليّة الزجر(2) وانقداح طلب تركه فينفس المولى فعلاً هو ما إذا صحّ انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد معاطّلاعه على ما هو عليه من الحال، ولو شكّ في ذلك كان المرجع هو البراءة،لعدم القطع بالاشتغال، لا إطلاق الخطاب، ضرورة أنّه لا مجال للتشبّث به إلفيما إذا شكّ في التقييد بشيء بعد الفراغ عن صحّة الإطلاق بدونه، لا فيما شكّفي اعتباره في صحّته(3) تأمّل لعلّك تعرف إن شاء اللّه تعالى(4)، إنتهى كلامه رحمهالله .
- (1) كما إذا قال: «أكرم العلماء إلاّ زيدا» وشككنا في أنّه هل هو زيد بن عمرو أو زيد بن بكر. م ح ـ ى.
- (2) وأمّا الزجر إذا لم يكن فعليّا فلا يتوقّف صحّته على انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد، فيجوزللمولى الأمر بالاجتناب عن الصلاة في ما بيد زيد من الثوب النجس مقيّداً بقوله: «إن اتّفق لك الابتلاءبذلك بعارية أو ملك أو إباحة». م ح ـ ى.
- (3) والحقّ في العبارة ـ كما في حاشية المشكيني رحمهالله وأشار إليه أيضاً الاُستاذ المعظّم«مدّ ظلّه» ـ أن يقال: «لفيما شكّ في تحقّق ما يعتبر في صحّته» لأنّ الابتلاء لا شكّ في اعتباره، بل الشكّ في تحقّقه بعد القطعباعتباره في صحّة الإطلاق. م ح ـ ى.
ج5
نقد كلام المحقّق الخراساني من قبل المحقّق النائيني رحمهماالله
واستشكل فيه المحقّق النائيني رحمهالله بقوله:
هذا الكلام بمكان من الغرابة، فإنّ إطلاق الكاشف بنفسه يكشف عنإمكان الإطلاق النفس الأمري وصحّة تشريع الحكم على وجه يعمّ المشكوكفيه، ولو كان التمسّك بالمطلقات والعمومات اللفظيّة مشروطا بإحراز إمكانالإطلاق النفس الأمري لانسدّ باب التمسّك بالمطلقات بالكلّيّة. إذ ما من مورديشكّ في التقييد إلاّ ويرجع إلى الشكّ في إمكان التقييد والإطلاق النفسالأمري، خصوصا على مذهب العدليّة: من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسدالنفس الأمريّة، فإنّ الشكّ في كلّ قيد يلازم الشكّ في ثبوت المصلحة الموجبةللتقييد، وعلى تقدير ثبوتها في الواقع يمتنع الإطلاق النفس الأمري، فالشكّ فيكلّ قيد يرجع بالأخرة إلى الشكّ في إمكان الإطلاق الواقعي، فلو اعتبر فيالتمسّك بالإطلاقات اللفظيّة إحراز صحّة الإطلاق في عالم الجعل والتشريعيلزم عدم صحّة التمسّك بها في شيء من الموارد.
والحاصل: أنّ كلّ خطاب لفظي كما أنّه يكشف عن ثبوت الملاك والمناط،كذلك كلّ إطلاق لفظي يكشف عن ثبوت الإطلاق النفس الأمري، ففيما نحنفيه القدر الثابت من تقييد أدلّة المحرّمات هو ما إذا كان النهي عن الشيءمستهجنا بنظر العرف، لخروجه عن مورد الابتلاء، وفيما عدا ذلك من المواردالمشكوكة يؤخذ بظاهر الإطلاق ويستكشف منه إنّا عدم استهجان التكليففي مورد الشكّ، كما يستكشف من إطلاق قوله عليهالسلام : «اللّهمّ العن بني اُميّة
(صفحه108)
قاطبة»(1) عدم إيمان من شكّ في إيمانه من هذه الطائفة الخبيثة(2)، مع أنّ حكمالعقل بقبح لعن المؤمن لا ينقص عن حكمه بقبح تكليف من لا يتمكّن عادةً،فكما يجوز التمسّك بإطلاق اللعن لإخراج من شكّ في إيمانه عن كونه مؤمنا،كذلك يجوز التمسّك بإطلاق أدلّة المحرّمات لإدخال ما شكّ في خروجه عنمورد الابتلاء فيه(3)، إنتهى كلامه رحمهالله .
نقد ما أفاده المحقّق النائيني في المقام
وفيه: أنّه لا يصحّ قياس سائر القيود بمسألة «الابتلاء» كي يقال: كما يصحّالتمسّك بإطلاق «أعتق رقبة» مثلاً عند الشكّ في تقييد «الرقبة» بالإيمان ولتتوقّف صحّة التمسّك بالإطلاق في الواجبات على إحراز المصلحة المطلقة وفيالمحرّمات على إحراز المفسدة المطلقة، كذلك يصحّ التمسّك بإطلاق مثل«اجتنب عن الخمر» عند الشكّ في تقييد الخمر بكونها مبتلى بها، ولا تتوقّفصحّته على إحراز المفسدة المطلقة.
وذلك لأنّ بين «الابتلاء» وسائرالقيود فرقا واضحا، وهو أنّ تقييدالتكاليف بـ «الابتلاء» عند العقلاء أمر ضروري متّصل بالكلام، فإنّ كلّ منوصل إليه التكليف لم يشكّ في كونه مقيّدا بـ «الابتلاء».
وهذا بخلاف «المصلحة» و«المفسدة» فإنّ تقييد الوجوب والحرمة بكون
- (1) بحار الأنوار 98: 292، الباب 24 باب كيفيّة زيارته«صلوات اللّه عليه» يوم عاشوراء، الحديث 1. وفيه«لعن اللّه بني اُميّة قاطبة». م ح ـ ى.
- (2) توضيح ذلك: أنّ قوله عليهالسلام : «لعن اللّه بني اُميّة قاطبة» يدلّ على جواز أو مطلوبيّة لعن بني اُميّة، خرج منذلك من كان مؤمنا منهم، لحكم العقل بقبح لعن المؤمن، وأمّا من شكّ في إيمانه منهم فنتمسّك بعمومقوله عليهالسلام : «لعن اللّه بني اُميّة قاطبةً» في حقّه، ونستكشف منه عدم كونه مؤمنا، إذ لو كان مؤمنا لكان لعنهقبيحا. م ح ـ ى.