(صفحه42)
في المقام ـ على فرض الترخيص ـ وإن كان يستلزم مخالفة حكم واقعي، إلاّ أنّبعض موارد المخالفة لا تعدّ معصية، فلا قبح في تجويزها عقلاً، إذ يمكن أنيكون في موردها مصلحة أقوى لأجلها رخّص الشارع فيها.
وبهذا انقدح جواب مسألةالتناقض، لأنّالتناقض يتوقّف على كون الشارعمصرّاً على رعاية الحكم الواقعي على أيّ حال، ومع ذلك أذِنَ في تركه.
وأمّا إذا رفع اليد عن إطلاق دليل حرمة شرب الخمر مثلاً عند اشتباههبين إنائين ولميُلزِم العبد برعاية هذا الحرام الواقعي حينئذٍ لأجل مصلحةأقوى فلم يكن الترخيص في ارتكاب كلا الإنائين مستلزما للتناقض.
كيفيّة الجمع بين المطلقات وبين الترخيص المخالف له
ثمّ إنّ الترخيص يبدو في بادئ النظر أن يكون مقيّدا للمطلقات، فإنّ دليلحرمة شرب الخمر مثلاً مطلق شامل للخمر المردّدة بين الإنائين، وما دلّ علىإذن الشارع في ارتكابهما يقيّده.
لكنّ الدقّة في المسألة تقتضي خلافه، لأنّ التقييد يختصّ بما إذا كان موردالمقيّد خارجا من بداية الأمر عن تحت المطلق بحسب المراد الجدّي، إلاّ أنّا كنّنتخيّل الإطلاق، وما نحن فيه ليس كذلك، لأنّ دليل حرمة شرب الخمرمطلق واقعا ويدلّ على أنّ الخمر ـ سواء كانت معلومة تفصيلاً أو إجمالاً حرام واقعا وبإرادة جدّيّة، لكنّ المولى أذن في ترك هذا الحكم الواقعي فيما إذكان مردّدا بين إنائين.
وبالجملة: إنّ الدليل المطلق باقٍ على إطلاقه حتّى بعد الظفر علىالترخيص، لكنّ المكلّف مأذون في مخالفته بالنسبة إلى مورد الترخيص لأجلمصلحة أقوى.
ج5
هذا تمام الكلام في مقام الثبوت وإمكان الإذن في مخالفة التكليف المردّدالذي دلّ عليه أمارة معتبرة.
البحث في مقام الإثبات
إذا ثبت إمكان الترخيص من قبل الشارع في هذه الصورة الأخيرة، أعنيما إذا دلّت أمارة معتبرة على الحكم المردّد ولم يحصل لنا العلم بإصرار الشارععلى رعايته في هذه الصورة، فهل وقع هذا الترخيص من قبله عليهالسلام أم لا؟
البحث حول دلالة «أصالة الحلّيّة» على الترخيص في المقام
قيل: نعم، لدلالة بعض أحاديث أصالة الحلّيّة(1) عليه:
1ـ مثل ما روي عن معاوية بن عمّار، عن رجل من أصحابنا، قال: كنتعند أبي جعفر عليهالسلام فسأله رجل عن الجبن، فقال أبوجعفر عليهالسلام : «إنّه لطعامٌيعجبني فساُخبرك عن الجبن وغيره، كلّ شيء فيه الحلال والحرام فهو لكحلال حتّى تعرف الحرام، فتدعه بعينه»(2).
2ـ وما روي عن عبداللّه بن سليمان، قال: سألت أباجعفر عليهالسلام عن الجبن،فقال لي: «لقد سألتني عن طعام يعجبني، ثمّ أعطى الغلام درهما، فقال: يغلام، ابتع لنا جبنا، ثمّ دعا بالغداء، فتغدّينا معه، فأتى بالجبن، فأكل وأكلنا،فلمّا فرغنا من الغداء قلت: ما تقول في الجبن؟ قال: أولم ترني آكله؟ قلت: بلى،ولكنّي أحبّ أن أسمعه منك، فقال: ساُخبرك عن الجبن وغيره، كلّ ما كان فيه
- (1) أصالة الحلّيّة شعبة من أصالة البراءة، والفرق بينهما أنّ أصالة البراءة تعمّ الشبهات الوجوبيّة، وأصالةالحلّيّة تختصّ بالشبهات التحريميّة، على أنّها في مقام جعل الحكم الذي هو الحلّيّة، دون أصالة البراءة.منه مدّ ظلّه.
- (2) وسائل الشيعة 25: 119، كتاب الأطعمة والأشربة، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 7.
(صفحه44)
حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه»(1).
وتوجيه الاستدلال بهذين الخبرين أنّ موردهما وإن كان الجبن، إلاّ أنّالإمام عليهالسلام أعطى في آخرهما قاعدة كلّيّة، وهي قوله عليهالسلام : «كلّ شيء فيه الحلالوالحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام فتدعه بعينه».
ويمكن المناقشة فيهما سندا، لكون الأوّل مرسلاً وعبداللّه بن سليمان فيالثاني مجهولاً.
أضف إلى ذلك أنّ المراد من الحرام فيهما هو أنفحة الميتة التي يصنع بهالجبن، فالمراد بالحديثين أنّ الجبن ـ الذي سألت عنه ـ على قسمين: حلالوحرام، فالحلال هو المصنوع بأنفحة المذكّى، والحرام هو المصنوع بأنفحةالميتة.
وحيث إنّه على خلاف فقه الإماميّة، لكون القسم الثاني أيضاً حلالوطاهرا عندنا فلابدّ من حملهما على التقيّة.
لكن يمكن دفعه بأنّ التقيّة إنّما هي في مورد الجبن، لا في الكبرى الكلّيّة،أعني قوله: «كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرامبعينه فتدعه».
لكن قد عرفت الإشكال في سند الحديثين.
3ـ وصحيحة عبداللّه بن سنان، عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال: «كلّ شيء فيهحلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»(2).
البحث حول مدلول هذه الأحاديث الثلاثة
- (1) وسائل الشيعة 25: 117، كتاب الأطعمة والأشربة، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 1.
- (2) وسائل الشيعة 17: 87 ، كتاب التجارة، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
ج5
يحتمل في كلمة «الشيء» المأخوذ في المغيّى ثلاثة وجوه:
أ ـ أن يكون بمعنى الطبيعة والجنس، أي كلّما كان من الطبيعة ذات قسمين:حلال وحرام ـ مثل طبيعة «المايع»(1) التي لها قسم حلال، وهو الماء وقسمحرام وهو الخمر ـ فلو شككت في فرد من أفراد هذه الطبيعة أنّه من أيّ قسممنهما فهو لك حلال حتّى تعلم أنّه من القسم الحرام.
ب ـ أن يكون بمعنى «مجموع الشيئين» الذين أحدهما حلال والآخر حرام،كالإنائين الذين نعلم أنّ أحدهما الماء والآخر الخمر، فكان معنى هذهالروايات أنّ كليهما حلالان حتّى تعلم الحرام منهما بعينه.
ج ـ أن يكون له معنى عامّ لهما، فيعمّ «الجنس» و«مجموع الشيئين».
ولا يخفى عليك أنّ هذه الأحاديث تختصّ بالشبهات البدويّة على الاحتمالالأوّل، وبالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي على الاحتمال الثاني، ويعمّ كليهمعلى الاحتمال الثالث.
هذا من حيث «المغيّى».
وأمّا «الغاية» فهل المراد من «المعرفة» فيها خصوص العلم التفصيليأو الأعمّ منه ومن الإجمالي؟
فإن اخترنا الاحتمال الأوّل من الاحتمالات المتقدِّمة في المغيّى كان المراد من«المعرفة» أعمّ من العلم التفصيلي والإجمالي، فلم تكن هذه الروايات دالّة علىالترخيص في المقام.
وإن اخترنا أحد الاحتمالين الأخيرين كان العلم الإجمالي داخلاً في المغيّى،واختصّت الغاية بالعلم التفصيلي، فكانت هذه الأخبار دالّة على الإذن في
- (1) ومثل طبيعة «الجبن» التي منها قسم حلال، كالجبن المصنوع من أنفحة المذكّى، وقسم حرام، كالمصنوعمن أنفحة الميتة على رأي العامّة. منه مدّ ظلّه.
(صفحه46)
المخالفة في ما نحن فيه.
هذا بحسب الوجوه المتصوّرة في المقام.
ويمكن أن تميل النفس في بادئ النظر إلى الاحتمال الأوّل من الاحتمالاتالثلاثة في المغيّى.
ولكنّ التأمّل يقضي بأنّ المراد بـ «الحلال» و«الحرام» ما كان موجودبالفعل منهما في نفس الواقعة المبتلى بها، وهو ينطبق على الاحتمال الثاني، لعدموجود الحلال والحرام بالفعل في الاحتمال الأوّل، بل مورد الابتلاء فيه هوشيء مشكوك الحلّيّة والحرمة.
وحاصل ما وصلنا إليه إلى هنا: أنّه يمكن الاستدلال على وقوع الترخيصبصحيحة عبداللّه بن سنان من الأخبار الثلاثة المتقدّمة.
4ـ وممّا استدلّ به على أصالة الحلّيّة: ما روي عن مسعدة بن صدقة، عنأبي عبداللّه عليهالسلام قال: سمعته يقول: «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرامبعينه، فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهوسرقة، والمملوك عندك لعلّه حرٌّ قد باع نفسه(1)، أو خُدع فبيع قهرا، أو امرأةتحتك وهي اُختك، أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غيرذلك، أو تقوم به البيّنة»(2).
ولا ينبغي الإشكال في دلالة صدر هذه الرواية على المقام، لأنّ غاية الحلّيّةفيها هو العلم بالحرمة، فكما تعمّ الشبهات البدويّة تعمّ أيضاً الشبهات المقرونةبالعلم الإجمالي، لأنّ كلاًّ من أطراف الشبهة يصدق عليه أنّه غير معلوم لنا.
لكنّ الأمثلة التي ذكرت بعنوان مصاديق «أصالة الحلّيّة» لا ترتبط به
- (1) المراد ببيع نفسه هو المصانعة والتباني مع شخص آخر ليبيعه وهو يقرّ كونه عبدا له. منه مدّ ظلّه.
- (2) وسائل الشيعة 17: 89 ، كتاب التجارة، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.